fbpx

منظار: عن التلصص من الجهة المعاكسة

0 297

لغوياً: تُشتق مفردة “تلصُّص” من الجذر نفسه لكلمة “لصوصيّة”، وإن كانت اللغة تعبيراً رمزياً عن بواطن اللاوعي الجمعي، ليس مدعاة للتعجب إذاً، أن تنغمس المفردة الأولى أيضاً، كحال الثانية، في قاع يعجّ بالدلالات غير الأخلاقية، كالعار والانتهاك. من جهة أخرى، يوصّف الطب النفسي اضطراباً جنسياً ينطوي على البصبصة الهادفة إلى الإمتاع الجسدي، تحت مسمى “شهوة التلصص Voyeuristic Disorder”.

فإذا ما استمرينا بقياس الأمور من المنظور نفسه، هل يمكننا مقاربة الفنون والآداب -بما تحمله من نزعة استراق النظر إلى حيوات الآخرين- إلى نوع من الاضطراب/الشذوذ الفكري؟

الفيلم كجريمة:

في روايته “غرفة واحدة لا تكفي”، يشير سلطان العميمي إلى القراءة بوصفها شكلاً من أشكال التلصص، “ما تنقله وسائل الإعلام لنا هو نوع من التلصص على ما يحدث في العالم، ونحن نسعى وراءها يومياً لكي نتلصص معها أولاً بأول، لنشبع فضولنا، عندما نقرأ لكاتب ما فإننا نتلصص على أفكاره وآراءه”.

لا يمكن فصل التصوير الفوتوغرافي والفن التشكيلي أيضاً، عن العين المتلصصة على العالم من عدسة أو رقعة ورق بيضاء، كذلك السينما كما نظّر لها الكاتب غيلبرت أدير والمخرج برناردو بيرتلوتشي في فيلم “الحالمون The dreamers”، قد تحمل نظرة جنسية حتى في جانبها غير الإيروتيكي، بما يحيل المخرجين إلى مجرمين، “فالكاميرا تبدو مثل ثقب الباب الذي يؤدي إلى غرفة والديك، وأنت تتجسس عليهما، هذا يثير اشمئزازك، وتشعر بالذنب، لكنك لا تستطيع إبعاد عينيك”.

في هذا السياق، قد يجادل بعضهم بأن الكتب والأفلام تترفع بعلنتيها (خاصية النشر) عن سمتَي الخفية وعدم وعي الضحية (المتلَصَّص عليهم) اللتين تميّزان التلصص، لكننا إن أمعنّا التفكير في العالم الفني، سواء المرئي أو المكتوب، سنجده مصمماً ليكون مغلقاً، ويخلق للقراء والمشاهدين وهم العزلة التلصصية، كما تسميه الناقدة السينمائية النسوية لورا مولفي في مقالة “المتعة البصرية والسينما السردية”، فنحن عندما نجلس في صالات العرض، نبدو مفتونين بما يدور في الشاشة، غير مكترثين ببقية المشاهدين، “هذا التناقض المتطرف بين العتمة التي تسود صالة العرض (والتي تفصل أيضاً المشاهدين الواحد عن الآخر) وبين تألق الصور المراوغة ما بين الضوء والظِل على الشاشة… يمنح المشاهد وهماً بأنه ينظر إلى عالم شخصي وخاص”، ينطبق الأمر نفسه على القراءة، باعتبارها فعل خلق لعالم مستقل عن إرادة الكاتب، عالمٍ موجه إلى القارئ الفرد، يذهب إليه وحده، عن عمد.

التلصص على التلصص:

لو انطلقنا من هذه الفرضية، أنّ الآداب والفنون تنطوي على نزعة تلصصية، تغدو النتاجات التي تتناول التلصص كعنصر أدبي أو فني، أشبه بفعل التلصص على التلصص نفسه.

وإذا استثنينا الأعمال التجارية التي تناولت التلصص من جانب بوليسي، سنجد أعمالاً كثيرة أخرى حاولت تشريح بنية المتلصص النفسية، أو مقاربة العالم/الآخر من عينيه، فهو مفتون بالشبيه المألوف مثلاً، في رواية “غرفة واحدة لا تكفي”، يستكشف ذاته من خلال هذا الآخر المطابق عبر ثقب الباب، ويفكر: ” لم أدرك يوماً القبح الذي يمكن أن أكتشفه في جسدي إن نظرت له عارياً من بعيد”. في هذه الرواية، يبدو العالم أشبه بالغرف الملاصقة المقفلة، التي يغدو فيها التلصص الحتمية الوحيدة لفك الحصار/العزلة.

وفي رواية “الجحيم”، يحيل هنري باربوس التلصص إلى البصيرة “أن ترى أعمق من اللازم”، تلك البصيرة التي لا تجلب إلا الشقاء لمن “يفكرون فيما لا يملكون”. فبطله الوحيد، يحاول الخروج من ذاته إلى الآخر/العالم، عبر التلصص من ثقب في جدار غرفة فندقية، قبل أن يفضي به هذا إلى الجحيم/الوحدة الأبدية، إنه “الخالق الوحيد للمعنى في عالمه” وعندما يموت سيتلاشى كل شيء معه: “كيف أستطيع أن أتصور إن لم أجن أنني أستطيع الخروج من ذاتي؟ أنني لست وحيداً؟ من يستطيع أن يثبت لي أن للعالم وجوداً منفصلاً عني، خارج أفكاري عنه؟ (…) العالم كما يبدو لنا، لا يثبت شيئاً سوانا، نحن الذين نظن أننا نراه. (…) غيري هم الخيال، أما أنا فالحقيقة”.

وإن كان التلصص في عمل باربوس ينطوي على عيش حياة الآخرين، التورط معهم رغماً عنهم، يبدو التلصص في “فيلم قصير عن الحب A short film about love” لكريستوف كيزلوفسكي، حاجزاً يفصلنا عن الآخر، أو ربما يحمينا منه، امتداداً لعيش حياتنا الخاصة من دون التورط عاطفياً. فتوميك الذي لا يعرف “لماذا يبكي الناس”، عشق ماجدا من بعيد، عبر عدسة المنظار، وعندما اكتشفت المرأة أمره وعرضت عليه ممارسة الحب، بدى وكأنه لا يجرؤ على الاقتراب أكثر.

“الجحيم هو الآخرين!”:

من المتوقع أن يكون فيلم كيزلوفسكي، ونماذج مشابهة من الأعمال الأدبية والفنية (بعض أعمال هيتشكوك مثالاً)، التي تناولت موضوع التلصص التلذذي على المرأة، مثار نقد العديد من المنظّرين النسويين، من منطلق أن هذه الأعمال تنطوي على رمنسة لتشييء للنساء، وبالتالي تكرس النظام البطريركي. لكنّ لورا مولفي ذهبت إلى أبعد من هذا في السبعينيات، بانتقاد الأفلام السائدة حتى تلك الفترة، من منطلق أنها تتلاعب بالمتعة البصرية التي تقدمها السينما، وتخلق من خلال السرد وتقنيات التصوير “نظرة محدقة وعالماً وموضوعاً مفصّلاً بمقياس اللذة”، لإرضاء رغبات الرجل وخيالاته.

التلصص في السينما إذاً، من منظور نفسي نسوي، فعل هيمنة تجاه المتلصَّص عليه، ولعل هذا المنظور يستند إلى “مفهوم النظرة” عند الفيلسوف جان بول سارتر، الذي يُحيل التحديق إلى “فارق غير موضوعي في القوة”، فالمتلصِّص ينظر إلى المتلصَّص عليه كموضوع وليس كذات حرة، يختزله إلى شيء. ولعلّ هذا وفق سارتر، يفسر خجل الإنسان عندما يكون في موضع المتلصِّص، (هناك حتماً من يفعل بي الشيء نفسه!)، وعندما يكون في موضع المتلصَّص عليه (“أنا خجلان من نفسي حيث أتبدى للغير، وبظهور الغير أصبح في مقدوري أن أصدر حكماً على نفسي كما أصدر حكماً على موضوع، لأني أظهر للغير بوصفي موضوعاً”).

إن كان التلصص – كفعل هيمنة – يفسّر عدم رغبتنا بالخضوع إليه، إذاً: ما الذي يفسر رغبتنا أحياناً بذلك؟ مازوشية؟ لماذا نكتب؟ لماذا نلتقط الصور الشخصية؟ لماذا ننشئ صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي؟

ما الذي يعوز الهلال ليصبح بدراً!

في “الجحيم”، ينظّر باربوس أنّنا لا نموت، فكل كائن وحيد في عالمه، نحن نموت في عوالم الآخرين فقط، ولكن من يثبت موتنا في عالمنا الخاص، إن كان خارج الممكنات أن نشهد موتنا الخاص!

إنما، بالعودة إلى “فيلم قصير عن الحب”، لابدّ أن ننوه إلى أنّ ماجدا تستمر بالتعامل مع علاقتها الطارئة مع توميك بغير تقدير، تعدّه آخرَ يهدد حريتها واستقلالها، يكشفها، يفضح ضعفها، حتى يختفي، وتختفي هي نفسها من عدسة منظاره. في تلك اللحظة فقط، يبدو إلى الرائي أنها تنجذب إلى المتلصص، وكأنها أدركت فجأة أنها بحاجة ليراها، وكأنها كانت بحاجة شاهد على وجودها، وكأنها تعاني نقصاً في الوجود عليها إكماله من خلاله.

بإسقاط فكر سارتر في هذا السياق، يتبدّى لنا التلصص كفعل خلق (من وجهة نظر المتلصِّص)، وكفعل وجود (من وجهة نظر المتلصَّص عليه)، ” فالغير لم يكشف لي فقط عما كنته، بل كوّنني على نمط موجود جديد، ينبغي أن يتحمل أوصافاً جديدة. أنا بحاجة للغير إذاً لأدرك كل تركيبات وجودي”.

ينظّر إدموند هوسرل أيضاً أنّ الآخر (المتلصص ضمن هذا السياق) ضروري لتكوين العالم والأنا التجريبي، بينما يجادل هيغل في “فينومينولوجيا الروح” بأنه المحرك الأول لصيرورة الشعور بالذات، “فالأنا بوصفه شعوراً بالذات يدرك نفسه، ولكنّ هذا اليقين عارٍ عن الحقيقة إلا عبر الغير، أي بالقدر الذي يبدو وجوده لذاته كموضوع مستقل (….) وبهذه الضرورة التي أجد فيها أنني لست موضوعاً لذاتي إلا هناك، في الغير، فعليّ أن أحصل من الغير على إقرار بوجودي”.

بالبناء على ما سبق، نحيل التلصص الفاعل والخامل، فنياً وأدبياً، إلى فعل خلق ووجود… هكذا وُجدنا، ولهذا ابتكر الإنسان منذ وعيه المبكر، القوى الغيبية!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني