هل ستتخلّى أمريكا عن قسد كما تخلّت عن حكومة أشرف غني في كابل؟
قد لا يكون من المبكر أن نقول إنّ الولايات المتحدة سوف تنتهج نفس السياسة التي انتهجتها مع حكومة أشرف غني بأفغانستان عندما أصبحت مصالحها تقتضي التخلص من دعم حكومة كابل على مدى عقدين من الزمن وبوادر ما سيحصل مع قسد تلوح بالأفق حيث لن يكون بعيداً التخلي عنها بشكلها الحالي وعدم الحاجة إلى خدماتها، المرحلة التي تبنّت فيها الولايات المتحدة حزب الإتحاد الديمقراطي وأذرعه ومنظماته قد انتهت، والمنطقة والاستراتيجية الأمريكية تغيّرت وفقاً لتبدل مصالح الولايات المتحدة.
خرجت الولايات المتحدة من حقبة التطرف الإسلامي السني الجهادي والذي بدأ بضربات أيلول 2001 واستمرت لعقدين من الزمن، ولم يَعُد إرهاب هذه الجماعات يُشكّل أولوية في السياسة الأمريكية في ظلّ التهديد الروسي والصيني المباشر لزعامتها العالمية وأيضاً خروج الشيطان الإيراني من القمقم وعدم اكتفائه بدور محدد ترضى عنه واشنطن بل أصبحت الميليشيات التي ترعاها وتديرها إيران في المنطقة خطراً جسيماً على مصالح الولايات المتحدة وربيبتها العبرية، وكان للتعاون الوثيق بين إيران وخصمي الولايات المتحدة (الصين وروسيا) والذي مرشح لأن يتحول إلى تحالف حقيقي مناهض للمصالح الأمريكية في قلب العالم.
قد تكون الولايات المتحدة سذاجة اكتشفت إستراتيجيتها خلال العقدين الفائتين عندما وقعت في بروباغندا محاربة الإرهاب، السني فأنفقت 20 عاماً في أفغانستان ثم أعادت الوضع إلى ما كان عليه قبل غزوها لهذا البلد، بينما في أرجاء الشرق الأوسط الكبير حاربت الولايات المتحدة واستنفذت جهودها تنظيمات راديكالية سنية (القاعدة وداعش) في حروب عسكرية أو عمليات أمنية بينما استفاد من هذا الانشغال الأمريكي خصوم الولايات المتحدة وقويت شوكتهم في ظل التيه الاستراتيجي الأمريكي، فبدأ الرئيس الروسي عملياً بتهديد الرئاسة الأمريكية للعالم وبالمقابل ازداد التمدد الصيني حول العالم واخترق حصوناً ظنّها الأمريكان منيعة عليهم ويتوعد باجتياح تايوان عندما تضعف الولايات المتحدة وبالمقابل لا تخفي إيران مسعاها في إخراج القوات الأمريكية من بلاد الشام والرافدين والخليج العربي لتكون رأس حربة للتحالف الشرقي في تلك المنطقة.
ما أودّ قوله أنّ تغير الأهداف الأمريكية يقتضي تغيير الأدوات التي لم تعد صالحة للمرحلة الجديدة.
فعند عدم اعتبار الولايات المتحدة داعش عدواً استراتيجياً وتراجع خطره إلى مستويات دنيا سوف يضطر الولايات المتحدة للتخلي مرحلياً عن رأس حربتها الأرضية في قتال التنظيم وطي صفحة بدأت عام 2014 وإيذاناً ببدء مرحلة جديدة بدأ التحضير لها عملياً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وهو العمل على إنهاء الوجود الروسي/الإيراني (التوءم) من سوريا حيث بات هذا الهدف يُشكّل محور الاستراتيجية الأمريكية ليس في سوريا وحدها بل في المنطقة كلها.
وكما بدأت الولايات المتحدة وخلال عامان متواصلان في مفاوضات رعتها قطر مع طالبان (وهي صعبة ومعقدة نظراً لتصنيف الولايات المتحدة للحركة أنها إرهابية وخاضت حرب عصابات ضد الاحتلال الأمريكي لبلادها قتلت وجرحت فيه جنوداً أمريكان بالآلاف) وتوصلت في النهاية معها للتخلي عن حليفها في كابل، أيضاً بتغير طبيعة القوى والأهداف في سوريا وإيذاناً ببدء مرحلة ما بعد داعش تقتضي المصالح الأمريكية تدارك خطاياها وهفواتها وعدم حاجتها الماسة لتنظيمات حزب الإتحاد الديمقراطي ذات البنية العقائدية والتنظيمية الصلبة والتي كانت ضرورية في مرحلة الحرب على داعش والتي شكلت النواة الصلبة والقيادية للهيكل الذي اخترعته الولايات المتحدة وأسمته قوات سوريا الديمقراطية (وتعلم واشنطن أن جوهر القيادة في تلك القوات ليست سورية وليست ديمقراطية).
وكان الروس والإيرانيون مسرورين أولاً بتورط الولايات المتحدة في حرب عبثية في سوريا والعراق تساهم باستمرار النزيف المعنوي والأخلاقي للولايات المتحدة عند سكان المنطقة من العرب والكرد والتركمان وغيرهم بتدمير المدن العربية السنية وتمكين فئة مكروهة من كرد المنطقة وعربها وترتبط قيادتها في جبال قنديل والتي تملك أفضل العلاقات مع خصوم الولايات المتحدة روسيا وإيران.
والخطير أيضاً في السنوات السابقة ازدياد رقعة الخلاف بين أنقرة وواشنطن بسبب السياسة الأمريكية بتمكين قسد شرق سوريا والتي وصلت لمستويات خطيرة باقتراب أنقرة من موسكو وطهران عبر مسار أستانة والمطالبة علناً بإخراج القوات الأمريكية من سوريا وتحميلها سبب استمرار المأساة السورية، بل إنّ عمق علاقات أنقرة وموسكو باتت تهدد الجناح الشرقي للناتو نفسه.
بدأت الولايات المتحدة بمراجعة حساباتها، فلماذا تُغضب العرب والترك والكرد بدعمها لتلك الفئة المارقة وتمكينها من ثروات المنطقة ومن رقاب الناس، فبدأت بإجراءات حثيثة لإشراك المكون العربي بالقرار في المنطقة على حساب المكون القنديلي وتقوية الأكراد السوريين الذي يحملون أجندات وطنية، فكانت إعادة الحياة إلى لواء ثوار الرقة باكورة أعمالهم على الأرض، وما الاستقلالية على الارض ورفض قرارات قيادة قسد من قبل مجلس دير الزور العسكري وحرية الحركة والقرار التي كان يدير بها أرياف دير الزور وتنامي قوته العسكرية والمالية وازدياد نفوذ قائده أبو خولة لم تكن لتتم بدون موافقة ضمنية أمريكية (إن لم يكن تشجيعاً منهم)، وفي العام الذي سبق الانتخابات التركية وبعد رفض واشنطن لعملية عسكرية تركية في شرق الفرات، سمحت الولايات المتحدة لأنقرة بعملية جوية واسعة استهدفت فيها المسيرات التركية رؤوساً حامية من PKK مهما كانت جنسياتهم وهو ما أثار حنق قيادة قسد عن تعاون تركي أمريكي ضدها، بل بلغ ذلك التعاون أشدّه في وصول المسيرات التركية لمحافظة دير الزور واستهداف منشآت نفطية هي أهم موارد قسد مالياً.
كل ذلك يشابه ما حصل في أفغانستان من ناحية انتهاء فترة حكومة أشرف غني في كابل والتعاون مع خصومه، وفي شرق الفرات تتعاون أمريكا مع خصوم قسد من الترك والعرب وترى مصالحها بالتعاون معهم بالمرحلة المقبلة وإصلاح بعضاً من أخطائها بحق سكان المنطقة، وتمكينهم من إدارة شؤونهم وحكم مناطقهم بأنفسهم وليس عبر تسلط كواد قنديل المكروهين شعبياً. علما أن الولايات المتحدة لم تعترف بقوات قسد إلا كحليف محلي عسكري فقط على الأرض للتحالف الدولي الذي تقوده، ولم تعطها أي اعتراف أو وعود بكينونة سياسية لها حتى إن الولايات المتحدة لا تعترف بما يسمى مسد (مجلس سوريا الديمقراطية) والتي تقول قسد إن هذا الجسم يمثلها سياسياً.
ولأن الولايات المتحدة لا تعترف بمسد وقسد (بغير توصيفها) فإنها لم تُفكّر أبداً بإسباغ صفة أو وصف المعارضة للنظام عليها ولم تَجد داعٍ من إشراكها باي مسار سياسي دولي أممي للحل السوري ويبقى الاعتراف الأمريكي فقط بالمعارضة الرسمية السورية كممثل عن قوى المعارضة السورية الشرعية في وجه نظام الأسد.
ولأن العرب والترك هو ما تحتاجه واشنطن في تنفيذ سياساتها الحالية والمستقبلية، بدأ التقارب التركي/الأمريكي بعد الانتخابات التركية يلقي بظلاله على الملف السوري، أولاً من ناحية ابتعاد أنقرة عن طهران وموسكو والتنسيق معهم في سوريا وصرف الأتراك النظر نهائياً عن تطبيع علاقاتهم مع نظام الأسد والذي تحرص واشنطن على عزله عربياً وإقليمياً ودولياً.
ويبدو من خلال الاهتمام الأمريكي بأحد مكونات قسد العربية وهي قوات الصناديد التي تتبع لقبيلة شمر في الحسكة وتُمسك بالحدود العراقية السورية في تلك المنطقة واهتمامها بالتنسيق بين القوات العربية شرق الفرات مع جيش سوريا الحرة في التنف، وطلب واشنطن وموافقة أنقرة على إرسال آلاف المقاتلين السوريين من الجيش الوطني السوري الذي ترعاه أنقرة للتدريب في قاعدة التنف في ظل الأقوال المتزايدة عن عزم واشنطن على عزل سوريا عن العراق جغرافياً في معركة مع الميليشيا التابعة لفيلق القدس الإيراني ورغبة جميع الدول في المنطقة بما فيهم تركيا في إضعاف التواجد الإيراني في سوريا، وامتناع قسد عن المشاركة في تلك العملية (إن تمت)، فإن الولايات المتحدة لم تَعُد ترى في قسد حليفاً قوياً أو وحيداً خاصة في ظل إشاعة السر المعلن حول هوى جماعة قنديل وارتباطهم الوثيق بالحرس الثوري الإيراني، ويجب أن نتوقف عند زيارة الجنرال مارك ميللي الأخيرة لشرق الفرات عندما خَصّ بزيارته قصداً مخيم الهول وقد استغرب المراقبون لماذا أهم شخصية في الجيش الأمريكي تزور ذلك المخيم المدني خوفاً عليه من أي خطر ولماذا تم تصوير الزيارة ونقل كلام عنه عن ضرورة إيجاد حل لوضع المخيم، ومن المرجح أنّ تلك الزيارة تمت لإدراك الولايات المتحدة انّ مرحلة داعش قد انتهت ولابد من إنهاء كل نتائجها وذيولها كمخيم الهول ولابد من إيجاد حلول أيضا لمشكلة اعتقال عناصر من داعش في سجن غويران، حيث تقوم قسد بحماية وإدارة السجن والمخيم وهي تعتبر ذلك مسمار جحا في شرق الفرات وتدرك حاجة الغرب لها بذلك.
إنّ تفكيك المخيم وإيجاد حل ما لسجناء غويران كفيل بإفهام قسد أننا لم نعد بحاجة لخدماتكم.
أيضاً إنّ صدور بيان باهت ورمادي عن السفارة الأمريكية في دمشق يدعو الطرفان لضبط النفس والهدوء، يُمكن أن يُقرأ في مضمونه أنه رضى أمريكي ووقوف على الحياد بين انتفاضة عشائرية (وليس خلاف بين مجلس دير الزور العسكري وقيادته في قسد) وتنظيم شريك رسمي للولايات المتحدة ويعتبر حليفاً عسكرياً ويدير المنطقة مدنياً، بعضهم يذهب أكثر من ذلك ويرى الموقف الأمريكي دعماً لموقف العشائر العربية السنية والتي يبدو أنها ستكون حليف الولايات المتحدة المقبل في الحرب على الحرس الثوري، بمعنى صحوات عشائرية عربية سنية لحرب الحرس الثوري على نموذج الصحوات العشائرية العربية السنية في العراق التي حاربت القاعدة بزعامة الشيخ عبد الستار أبو ريشة والجنرال الأمريكي بترايوس، وهذه العشائر ستعبر النهر من الشمال للالتقاء مع نظرائها جنوب النهر والذين يقبعون الآن تحت سيطرة الميليشيات الإيرانية، ولن تغفر الولايات المتحدة لقسد القنديلية تمردها عليها وعدم الانصياع للرغبة الأمريكية بقتال الميليشيا الإيرانية.
وقد يكون من المرجّح أنّ خطوة قيادة قسد بهذا الوقت المضطرب والمليء بالأحداث باستدراج قادة المجلس العسكري في دير الزور واعتقالهم في الحسكة مع استعدادات عسكرية وإعلامية قامت بها قسد بعد الاشتباك المحدود الأخير مع مجلس دير الزور العسكري، من المرجح ان يكون الحرس الثوري الإيراني من خطّط لتلك الأحداث لزرع البلبلة وخلط الأوراق في تلك المنطقة المهمة والتي ستكون رأس الرمح الشمالي في الحزام السني العشائري المزمع إنشاؤه وإغلاق معبر البوكمال.
إمّا الفوضى وخلق عدو (كردي قنديلي) للعشائر العربية او حتى بث الفرقة والشقاق بين ابناء العشائر أنفسهم ممن يؤيد ابو خولة ومن يعترض على أدائه والذي لا يحظى برضى الكثيرين من أهل المنطقة وعشائرها ويُثنيها عن المشاركة باي جهد أمريكي جنوب النهر، أو سيطرة كوادر قنديل على المنطقة وقرارها السياسي والعسكري والرافض للاشتراك بما يروّج له عن معركة قريبة مع ميليشيات فيلق القدس الإيراني.
لا يوجد رابط ملموس ببن ما يحدث في السويداء وبين ما يحدث في ريف دير الزور ببداية التحرر من هيمنة كوادر قنديل على منطقة الجزيرة والفرات، إلا أنّ كلا الحدثين يلتقيان بالأهداف وهي إضعاف سلطة الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين والقنديلين من الكرد تمهيداً لعزل الملف السوري عن تأثيرات الصراعات الإقليمية والدولية عليه وحصره بنطاقه المحلي بين نظام ومعارضة وإخراج الروس والإيرانيين من سوريا حاضراً ومن التأثير في صياغة مستقبلها عبر أي حل سياسي يتم التوصل إليه.