fbpx

السيّدة

0 201

تقصّى عنها في الشوارع والحارات ولم يترك زقاقاً دون أن يبحث فيه عن السيدة ح-اء، ويتعقّب أخبارها. سأل عنها الكثيرين، السكان، والمارة، وأصحاب المتاجر والدكاكين ولم يعثر على أثر لها. لقد ضاعت في زحمة الأحداث، وتبخّرت كقطرة ماء في هاجرة الصيف. لم يفقد الأمل بالعثور عليها. عيناه تدوران باحثتين في وجوه مَنْ يصادفهم في الطرقات، وإذا ما وجدتا شبيهة تلاحقانها حتى يتأكد أنها ليست هي، ومرّت الأيام مرور سحابة خريفية ولم يفتر نشاطه. فظلّ مصمماً على إيجادها ولو طوّف في أرجاء البلاد كلها.

غادر المدينة، وتجوّل في الأرياف علّه يتنسّم لها خبراً، كاد التعب يضنيه، ويهدّه المسير. نصحه أحدهم أن يعلن عنها في الصحافة. وجدها فرصة تخفف عنه فحاول. طلبوا منه صورة فأعطاهم أوصافها، شابة جميلة، حسنة الهندام، لطيفة ومحبة. قالوا: هذه الصفات تنطبق على كثيرات.

أجاب: هي من أسرة متفردة عن الأخريات.

نشروا إعلانه في زاوية صغيرة على صفحات الجرائد والمجلات.. انتظر… وانتظر ولم يأته عنها خبر.

عاود البحث في المدن، جلس على نواصي الشوارع ومفترق الطرق يفتّش في الوجوه، ويتساءل: هل سافرت إلى بلاد بعيدة؟ أنسيت المحبين والأصدقاء؟ كيف اختفت وانقطعت أخبارها؟ وبقي الأمل في لقائها يحيا في نفسه.

اتخذ مكاناً يكثر فيه الازدحام، والباعة المتجولون وراح يدقّق في العابرين. مضى الوقت، وكرّت الأيام وهو يجلس كصنم، عيناه تراقبان، وأذناه ترهفان السمع. رنّ صوت.. جفل كطير تحرّش به صبية مشاغبون. سمعها تنادي “حليييب.. رز بحليب كلما برد يطيب.. تعالَ تذوّق الطعم يا حبيب”. قفز واقفاً.. اتّجه نحوها.. إنها هي بشحمها ولحمها.. تقدّم منها.. نظر في وجهها.. افترّت شفتاها عن ابتسامة عذبة، وبرقت عيناها.. شجّعته ابتسامتها.. اقترب.. أمسك يدها وقال بصوت جهوري: بحثتُ عنكِ، طفت في المدن والأرياف، وفتّشت في الشوارع والحارات وأزقتها…

  • آهٍ يا صديقي! وتنهّدت..
  • أين كنتِ؟
  • تجوّلت داعية في أرجاء المعمورة.
  • ولِمَ دعوتِ؟
  • دعوت الناس إلى المحبة والتسامح، فواجهتُ المتاعب…
  • وهل سمعوكِ؟
  • استجاب بعضهم، وخذلني آخرون
  • وبعدُ؟
  • بعضهم ادّعوا محبّتي واستغلوا سمعتي ودعوتي.
  • وماذا فعلوا؟
  • قتلوا وشرّدوا الناس باسمي…
  • أما مللتِ؟
  • نعم، لم أمل، ولن أفقد التفاؤل…
  • ربما كبرتِ وشختِ
  • لا، فما زلت شابة
  • وستبقين شابة؛ لكن ألم تتعبي؟
  • لم أتعب؛ ومهما لقيت عنتاً فسأستمر في دعوتي…
  • ومن يعيق دعوتكِ؟
  • أولئك الذين يجاهرون بالحرص على أختي الحرية ويعتقلون أصدقائي باسمينا.
  • وإلى متى ستستمرين؟
  • إلى أن ترتفع راية الحقوق عالية.
  • وإلامَ تطمحين..؟
  • أن أرى تباشير السلام والمحبة تسود في الأنحاء 
  • ولهذا ما فتئتُ أبحث عنكِ.. وصمَتَ لثوانٍ
  • وما علاقة الحقوق بالحليب؟
  • الحليب! وهل يُستغنى عنه، أو يعيش الأطفال بلا حليب؟!
  • لا..
  • وكيف تراني والحليب؟!
  • حياة للإنسان كالروح والجسد
  • صدقتَ…
  • وحدجته متسائلة:
  • والحرية؟!
  • إنها أسّ الحقوق، ونور الوجود وفيضه

ابتسمت.. وقالت: هلمّ فالطريق طويل، والمسيرة شاقة.. وضعتْ يدها في يده.. انطلقا ضاحكين، وارتفعت عقيرتهما معاً “تعالَ يا حبيب.. يا رز بحليب…”.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني