fbpx

الانتخابات النصفية الأمريكية في ميزان الربح والخسارة

0 236
الاقتصاد على رأس أولويات المواطن الأمريكي.. الولايات المتحدة هي الرابح الأكبر ودونالد ترامب هو الخاسر الأول

بعد سقوط آخر ورقة انتخابية في صندوق الاقتراع، سقطت كل الحسابات الافتراضية. ومع البدء بفرز النتائج الانتخابية، توقفت كل الاستنتاجات الحزبية. فالانتخابات النصفية الأمريكية تشمل عادة الاستفتاء على كامل أعضاء مجلس النواب المكون من 435 عضواً، الذين ينتخبون لفترة عامين فقطـ وهو يأتي بناءً على التمثيل النسبي لعدد السكان في كل دائرة انتخابية، التي تمثل مختلف المقاطعات في الولايات الأمريكية. وتشمل أيضاً انتخاب ثلث أعضاء مجلس الشيوخ المكون من 100 عضواً، عضوين لكل ولاية من الولايات المتحدة الخمسين. وينتخب عضو مجلس الشيوخ لدورة انتخابية لمدة ستة أعوام. وبهذا يكون عدد أعضاء مجلس الشيوخ الذين ستشملهم الانتخابات النصفية هو 33 عضواً. إذن تشمل هذه الانتخابات 435 لعضوية مجلس النواب و33 لعضوية مجلس الشيوخ.

والكونغرس الأمريكي الذي يمثل السلطة التشريعية في الولايات المتحدة مكون من مجلسي النواب والشيوخ، وتسمى الانتخابات النصفية لأنها تأتي في منتصف دورة الرئيس الذي يُنتخب لأربع سنوات، والرئيس هو من يمثل رأس السلطة التنفيذية (الحكومة)، وبهذا تأتي الانتخابات النصفية كل عامين لتقييم أداء الرئيس وحكومته بعد مضي نصف الفترة الرئاسية.

إذن من المفترض أن يكون الرئيس جو بايدن وحكومته على محك هذه الانتخابات، ومنذ فترة سبقت الانتخابات بعدة أشهر، لم تتوقف التحليلات والاستنتاجات والتكهنات حول نتائج هذه الانتخابات، ففي الوقت الذي كان فيه الرئيس بايدن والديمقراطيون متفائلون بحذر، أفرط الجمهوريون بتوقعاتهم، وخاصة الرئيس السابق دونالد ترامب وأتباعه الذين باتوا يعرفون بحركة جعل أمريكا عظيمة من جديد (Make America Great Again, MAGA). وذلك لأن الاعتقاد كان لديهم بشكل عام بأن الرئيس بايدن وسياسات الحزب الديمقراطي هو المسؤول الأول عن تردي الوضع الاقتصادي والتضخم الحاصل. كما وذهب الرئيس ترامب إلى أبعد من ذلك متوهماً بأن الولايات المتحدة ستنتخب كل مرشحيه وستستنجد به في عام 2024 متوسلة له ليكون البطل المُخلص للولايات المتحدة والقائد الأعظم الذي سيفرض قواعد النظام العالمي الجديد. متجاهلاً بذلك الوقائع والحقائق بانه هو من كان المسؤول الأساسي عن وصول الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم لما هو عليه الآن. وذلك لأنه، ومنذ وصوله إلى الرئاسة في مطلع عام 2017، شن حرب اقتصادية ضد الصين التي تربطها مع الولايات المتحدة وشائج وعلاقات تجارية واقتصادية يؤدي فصم عراها إلى خلل في الميزان التجاري العالمي. وكذلك شن حرب سياسة على أوروبا وحلف شمال الأطلسي التي تربطها مع الولايات المتحدة علاقات شراكة في المجالات كافة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وشن حرب مجتمعية على الشعب الأمريكي ونظامه الديمقراطي والسياسي الذي بقي مستقراً ومتوازناً منذ تأسيس الولايات المتحدة قبل أكثر من 240 عام. وأيضاً تجاهل تفشي وباء جائحة كورنا وبما صدع مرتكزات الاقتصاد وقاد إلى التضخم.

نعم، وبحسب استطلاعات الرأي الموثقة، كانت أولويات الناخب الأمريكي في الانتخابات النصفية التي أجريت يوم الثلاثاء الماضي، الاقتصاد، الاقتصاد، ثم الاقتصاد. وبحيث دخل معظم الناخبين الأمريكيين إلى قاعات الانتخاب وهم يتحسسون جيوبهم. وكانت كل القضايا الأخرى مثل الصحة والهجرة والإجهاض، وغيرها مثل السياسة الخارجية مهمشة إلى حدٍ كبير. هذا بالرغم من أن السياسة الخارجية، ومنها التعامل مع الحرب في أوكرانيا، كانت في خلفية تفكير المواطن الأمريكي وهو يشق طريقه عبر الطوابير التي امتدت على مد النظر أمام قاعات الانتخاب. وبحيث سجل الإقبال على الانتخابات هذه المرة رقماً غير مسبوق في تاريخ الانتخابات الأمريكية. كيف لا، وفاتورة الحكومة الأمريكية لدعم أوكرانيا ضد روسيا قد بلغت قبيل الانتخابات 18 مليار دولار في أقل من عشرة أشهر، والحبل على الجرار. وهذا ما دعا الرئيس بايدن المخضرم أن يستبق الانتخابات ويتواصل مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي وحثه على إسقاط مطلب لا تفاوض مع بوتين. كما وأوصل رسالة سرية بشكل أو بآخر لبوتين بأن الولايات المتحدة يمكن أن تدخل مع روسيا في عملية تفاوض ما. وبكون الأزمتين الأوكرانية والسورية متصلتين بشكل وثيق ومباشر بين الولايات المتحدة وروسيا وللتدليل على التعامل بالمثل، أرسل بوتين رسالة مشابهة لحليفه رئيس النظام السوري الأسد طالباً منه الاستعداد للتفاوض على مستقبل الحل في سورية. وهذا الوضع سيظل قائماً، على الأقل لحين انتهاء معمعة الانتخابات الأمريكية. وكانت إدارة الرئيس بايدن قد استبقت التواصل مع روسيا بالتوصل إلى توافق سري مع إيران عبر قطر لفرض ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وذلك لضمان ضخ الغاز الإسرائيلي لأوروبا خلال فترة الشتاء المقبل. ولهذه الاتفاقات محاذير ومفاعيل مختلفة قد أتطرق لها في مقالات لاحقة. لكنه لابد من التأكيد هنا بأن الدافع الأساسي للرئيس بايدن لها هو الظهور قبل الانتخابات بمظهر الحريص على تحسين الاقتصاد الأمريكي والعمل على إيجاد مخارج. خاصة وأنه كان قد تلقى ضربة من السعودية بخفض إنتاج النفط ما أثر سلباً على الاقتصاد الأمريكي عبر ارتفاع الأسعار والتضخم. وهو كان يتحرك بطلب مباشر من أعضاء حزبه الديموقراطي خوفاً من خسارة الانتخابات وأخذ الجمهوريون لزمام المبادرة.

ما الذي أسفرت عنه الانتخابات النصفية؟

حتى الآن لم ينته فرز النتائج بشكل نهائي بعد. وقد يأخذ وقتاً بسبب تقارب النتائج بين الحزبين. فما زال هناك 35 مقعداً في مجلس النواب غير محسومة. وحصل الجمهوريون حتى اللحظة على 209 مقاعد، بينما حصل الديمقراطيون على 191. والرقم السحري هو 218، أي النصف+1.

يحتاج الجمهوريون إلى 9 مقاعد فقط للوصول إلى هذا الرقم. وأعتقد بأنه في متناول اليد. بينما يحتاج الديمقراطيون لـ 27 مقعد للوصول إلى العدد المطلوب للأغلبية. وهذا على ما يبدو متعذراً. إن تركيبة المجلس الحالي هي 220 للديموقراطين و212 للجمهورين. وهناك ثلاثة مقاعد شاغرة، مقعد جمهوري بسبب الوفاة ومقعدين ديموقراطيين بسبب الاستقالة. ومن المتوقع أن تنعكس تركيبة المجلس القادم لصالح الجمهوريين بفارق بسيط، من خمسة لستة مقاعد. أي سيكون المجلس منقسماً. ولابد من التعاون بين الحزبين لاتخاذ القرارات التي تتطلب تصويت المجلس.

أما نتائج مجلس الشيوخ فهي حتى اللحظة 49 للجمهوريين و48 للديمقراطيين. ومازال هناك ثلاثة مقاعد غير محسومة. يحتاج أحد الحزبين للحصول على مقعدين من أصل المقاعد الثلاثة المتبقية ليفوز بالأغلبية، والتي هي 51 (النصف+1). وتركيبة المجلس الحالي هي 50/50 ونائبة الرئيس حسب الدستور تحسم الأغلبية لصالح حزب الرئيس، أي الديمقراطيين. وأعتقد بأن هذه الحالة ستتكرر في المجلس الجديد. هذا إذا حصل الديمقراطيون على مقعد ولاية أريزونا والجمهوريون على مقعد نيفادا. وستبقى الأمور معلقة إلى أن يُحسم الوضع حول مقعد ولاية جورجيا، ولايتي، في السادس من الشهر القادم. والذي سيذهب إلى انتخابات تكميلية لعدم حصول أيٍ من المرشحين على 50% كما ينص دستور الولاية. وإذا ما حصل وكان مقعد جورجيا هو الحاسم في الحصول على الأغلبية، كما حصل في الانتخابات الماضية، 2020، فمن المتوقع أن يضخ الحزبين ومناصريهم مئات الملايين من الدولارات للحصول على مقعد جورجيا كما حصل مع مقعد ولاية ببنسلفانيا، الذي ذهب في النهاية للحزب الديموقراطي. هذا بالرغم من دعم ترامب لمرشح الحزب الجمهوري، مهيميت (محمد) أوز وهو دكتور مسلم من أصل تركي، والذي كان ترامب قد انتقاه بنفسه.

من هم الرابحون والخاسرون في الانتخابات النصفية الأمريكية؟

الرابح الأكبر في هذه الانتخابات هو الولايات المتحدة. وذلك بانتصار الديمقراطية فيها وتأكيد هيبة النظام الديموقراطي القائم على التنوع وتمثيل الشرائح المجتمعية والسياسية كافة. وبحيث تمثل في هذه الانتخابات البيض والسود والصفر (من شرق آسيا) والبنيين (من أصول لاتينية). وعرب ومسلمين، وأمريكيين أصليين (هنود حمر). وفاز بها أيضاً أحد أبناء الجيل الجديد، 25 عام، عضو في مجلس النواب من ولاية فلوريدا. كما وفاز فيها مثليين من النساء والرجال، ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، فازت بحاكمية ولاية ماساشوستس امرأة مثلية. ولقد استطاعت النائبة رشيدة طليّب، فلسطينية الأصل، أن تحتفظ بمقعدها للمرة الثالثة بالرغم من الدعم الذي تلقته منافستها من اللوبي الصهيوني. وكذلك حصل نفس الشيء مع المسلمة المُحجبة أليهان عمر من ولاية مينيسوتا. وهي من أصل صومالي.

أما الخاسر الأول في هذه الانتخابات هو الرئيس السابق ترامب. حيث كان يعتقد بأنه سيحقق اكتساحاً عارماً بنجاح كل مؤيديه. وسيسير بهم إلى النصر الأكيد في الانتخابات الرئاسية القادمة 2024. لكن معظم المرشحين من مؤيديه قد خسروا الانتخابات. وأثبت الناخب الأمريكي بشكل عام بأن معتدل. ولا يقبل التطرف من أية جهة كانت. وأن أمريكا لا يمكن ان تحكم إلا من الوسط. والدليل على ذلك النتائج المتقاربة في العديد من الولايات. وكل النتائج التي لا تزال غير محسومة هي تتراوح بأجزاء الدرجتين ودون الـ 50 بالمائة. وفي ولاية جورجيا تحديداً انعكس مبدأ الوسطية بشكل واضح وجلي. حيث حصل المرشح الديمقراطي القس رفائيل ورناك على 49.4 بينما حصل المرشح الجمهوري لاعب الفوتبول السابق هيرشل والكر على 48.5. وهذا ما أفسح المجال لمرشح حزب التحرر للحصول على 2.1. وهذا يعني بأن هناك من صوت ضد رغبة حزبه لأنه غير مقتنع بأي من المرشحين. وهذه أيضاً يمثل رسالة واضحة من الجورجيين مفادها بأنه إذا كنت يسارياً وتريد تمثيل الولاية في واشنطن، يجب أن تمتد إلى يمين الوسط بدرجة، وإذا كنت يمينياً يجب أن تمتد إلى يسار الوسط بدرجة حتى تربح. فممثل الولاية يجب ألا يمثل حزبه وشريحته الاجتماعية فقط، وإنما كل مواطنين الولاية بغض النظر عن السياسية والتصنيفات الاجتماعية.

وكان من أهم الرابحين في هذه الانتخابات النصفية هو حاكم ولاية فلوريدا ران دي سانتوس، الذي انسحب من تحت عباءة ترامب في بداية الانتخابات وتموضع بشكل واثق لقيادة الحزب الجمهوري، ووضع نفسه على رأس المنافسين لترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة. وهذا ما أثار حنق ترامب واستدعى انتقامه. فهو كان يعتبره تلميذه النجيب. خاصة وإن ترامب يعيش الآن في ولاية فلوريدا، أي أنه مواطن في الولاية التي يحكمها دي سانتوس. فالمعركة برأيي ستكون طويلة ومريرة بين الرجلين وستنعكس على ولاية فلوريدا، والولايات المتحدة بشكل عام. فترامب شخصية عصابية نرجسية لا تستطيع تقبل الهزيمة. وقد تتحول بسهولة إلى شخصية عدائية مدمرة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني