fbpx

شبح الفقر والجوع يخيم على السوريين ما بين غلاء أسعار وانعدام موارد

0 200

دمشق أقدم عاصمة في التاريخ، وطالما كانت مهد الحضارات المختلفة، منها ابتدأت النهضة العلمية والعمرانية وإليها كانت تهوي القوافل التجارية، فكانت ملتقى التجار، واختارها معظم الصحابة والعلماء والتجار من مختلف أصقاع الأرض لتكون مقاماً لهم، وهي أيضا التي جال فيها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، ليبحث عن فقيرٍ فلم يجد فيها فقيراً واحداً، ومنها انطلق عبد الرحمن الداخل للأندلس حيث بنى برفقة السوريين حضارة مازالت تشهد إلى الآن بعظمة هذه الأرض وهذا الشعب.

كل تلك الأفكار وغيرها جالت بخاطري وأنا أتجوّل في دمشق، فعلى يمينك نهر بردى بلونه البني، الذي حوّلت المخلفات لونه الشفاف إلى لون بني، ورائحته تجبرك على الابتعاد بل الهرب من شدة فظاعتها، أما على يسارك، فترى وجوهاً بائسة يائسة تكاد تبكي أو ربما تبكي بلا دموع، وأكثر ما يزعجك أو يحزّ في نفسك ظاهرة التسوّل، التي أصبحت سائدة بشكل غريب، أي أصبح من الممكن أن تجد أكثر من عشرين متسولاً في شارع واحد، خاصة في شوارع العاصمة، وهناك لفتتني طفلةٌ لم تتجاوز العاشرة من عمرها، تنام فوق علبة بسكويت شبه فارغة.

سألتها عن عائلتها فأخبرتني أن أباها مفقود منذ ثلاث سنوات، ولا يعلمون أي تفاصيل عنه، ووالدتها مريضة، وأخاها ذا الأربعة عشر عاماً، الذي يعمل في محل بيع خضار، يجبرها أن تخرج يومياً حاملةً علبة البسكويت، ويخبرها ألا تعود للمنزل إلا إذا استطاعت جمع عشرة آلاف ليرة سورية، حتى لو اضطرت أن تنام في الطريق.

أساساً، هي لا تعرف طريق العودة، لأنه يومياً منذ الساعة التاسعة صباحاً يصحبها من بلدة الهامة إلى دمشق، ولا يأتي لاصطحابها إلّا بعد العاشرة ليلاً، حتى يضمن أنها ستجمع عشرة الليرة، ومثلها كثير على طول الطريق وعرضه، أطفال ونساء وشيوخ، بل ورضّع قد اتخذهم أهلهم وسيلة لاستعطاف الناس، والمضحك المبكي، أن العاصمة تغرق بالمتسولين وبصور رئيس النظام، وتكلفة الصورة الواحدة تتكفل بإطعام عدّة أسر لشهور.

وأحياناً يتبادر إلى ذهنك أن هذا النظام سعيد بتلك الحالة التي أوصل الناس إليها، بل يساعد أيضاً في دفع فئات أكثر تحت الفقر، فبداية رفع الدعم عن أكثر من مليون أسرة، مع أن غالبية الناس كانوا يحتاجونه لأجل الخبز فقط، فالسكّر والأرز غالبية العائلات لا تستلم حصصها بسبب سرقات سوريا للتجارة، أما البنزين، فهو مهم لمن يمتلكون سيارات، وعددهم محدود مقارنه بباقي المواطنين، أما مئة ليتر المازوت، الذي لم يستلم معظم المواطنين حصصهم منه، وخاصة سكان المناطق التي ثار أهلها على النظام، كالغوطتين الشرقية والغربية، وجنوب العاصمة، والقلمون، الذي هو أشد المناطق برودةً، لربما في سوريا بأكملها فقد عمد النظام لإذلالهم من أجل تحصيل حصصهم، ومن حالفه الحظ واستلم حصته، سرقت نصفها.

ومع رفع الدعم، اُستفز الناس، وخشي النظام من تحركات كتلك التي حصلت في السويداء، التي قام الأهالي بإجبار الأفران على البيع دون بطاقات، وبالسعر القديم 500 ليرة عوضاً عن 1300 ليرة.

أعاد النظام الدعم لعدد كبير لعدّة أسابيع، ثم عاد ورفع الدعم عن الناس، وبدت حركته غبية لامتصاص غضب الناس، ولم يكتف برفع الدعم، بل يسعى لمحاربة الناس بأي مصدر رزق، فبعد أن رفع الدعم، وخاصة عن الخبز، الذي كان دائماً ما يتبجّح أنه خطٌ أحمر، بل عمد إلى إزالة أغلب البسطات من دمشق وأريافها بحجة تشويه المنظر العام، بل وعرض عليهم فكرة غبية بان يتواجدوا ليلاً كي لا يفسدوا المنظر العام، وحتى الأكشاك التي قام هو بمنح تراخيصها لعائلات وأسر قتلاه، أعلن عن إزالتها جميعاً أي أن النظام فعلياً يحارب الناس في لقمة عيشهم.

لم يكتف النظام بذلك، بل لاحق الأطباء والمهندسين والمحامين، وفرض عليهم ضرائب باهظة، أجبرت أغلبهم على إغلاق عياداتهم ومكاتبهم والهروب من جحيم سوريا، وفرض في قانون البيوع العقارية الجديدة على كل من أراد بيع أي عقار، أن يودع نسبة بين 10-15% في البنك، ولا يحق له أن يسحب منها سوى مليونين شهرياً كحد أقصى، ما أوقف عمليات البيع والشراء، وأجبر من يريد أن يستأجر أيضاً على دفع ضريبة تتجاوز مئة وخمسين ألف ليرة سورية، وأجبر أصحاب المحال الذين أغلقت محالهم بسبب الحرب على دفع ضرائب وفواتير على محال مغلقة منذ عشر سنوات بمبالغ تقدر بالملايين.

إذاً، النظام يسعى لتعويض خسارته وانهياره الاقتصادي من جيوب الناس، ومازال يتبجّح بقدرته على الصمود والتحدي، رغم تجاوز نسبة الفقر 80%، فبعد أن تفنّن في قتل السوريين، انتقل إلى مرحلة التفنّن في تجويعهم وإفقارهم، ووضعهم أمام خيارين، إما الموت، أو السفر ولو إلى الصومال.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني