fbpx

وتبقى حزازات الصدور

0 239

هل هي لعبة أم تناطحُ كباش؟ عالمنا اليوم سيرك مشدودة حباله بخيوط دهاء لعبة شيطانية، عالم يمور بالعنف الذي يزداد ويتعمّق، ويرهص العلاقات الإنسانية على مستوى الدول والجماعات والأفراد. تربية العنف تتجذّر في مؤسسات التربية، وفي الأسرة، وفي المجتمع. وماكينة الإعلام التي تسيطر وتوجّه الرأي العام بأساليب شتّى خدّاعة فتضيع الحقائق في سراديب الزيف وتطمسها، وتختم عليها في صناديق مقفلة علّ الأيام تفصح عن تلك الأسرار التي خفيت في خزائنها.

عالمنا اليوم أصبح غابة تتناطح فيها الدول الكبرى لتحقيق مصالحها ورغائبها، تثير بؤر التوتر في مناطق عديدة، تديرها عن بعد جاهدة أن تحافظ على مكانتها ومكاسبها في لعبة الكراسي من يسبق ليشغل الفراغ فيبعد الآخر؛ ليعيد الجولة آملاً أن ينجح في لعبة أخرى، وهكذا يتكرر المشهد، وتتعقد المواقف لتصل حدّ التصادم المباشر في لعبة عض الأصابع المؤلمة ليبحثوا عن تخريجة للعبة وسط ذهول الدول المستضعفة وسكان المعمورة.

تاريخ العنف البشري قديم ومتجذر في عمق التاريخ الإنساني، تطورت أساليبه مع الزمن من المواجهة الشخصية أيام السيف والرمح إلى المواجهة عن بُعدٍ، بعدَ أن تطور السلاح الحربي من المسدس إلى البندقية فالطائرة والصاروخ إلى النووي الفتاك والمدمر.

أُنشئَت هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لوقف العنف وويلات الحرب، ولنشر التسامح والصداقة بين الشعوب، واحترام حقوق الإنسان في الحياة والكرامة دون أي تمييز، تقول في ديباجة ميثاقها “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب… وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره…. وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي”. وجاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء “. وشكّلت منظماتها، وارتفع الصوت بحقوق الإنسان، وحمايته، والحفاظ على حياته، وصون كرامته؛ لكننا أينما نظرنا فيما حولنا لا نجد صدى لهذه الحقوق إلا قليلاً، فهي تُخنق في مناطق عديدة دونما رحمة، وتُهدّد على أيدي العنف التي مسختها، ولوّنتها بحمرة الدم وآلام الفقر والجوع عبر مسيرة تقدمها الإنساني المزعوم رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها المنظمات الإنسانية والدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة.

وخلال هذه المسيرة للحضارة البشرية كم اجتاحت جيوش الدول القوية للأضعف منها، وكم اتسعت رقعتها الجغرافية، وكم نزف العالم جراء العنف في قارات الأرض كلها؛ لكن أبشعها كان على يد هولاكو وأمثاله، والإبادة الجماعية، والتهجير الذي عانت منه أفريقيا باستعباد شعوبها، وبيعهم رقيقاً في القارة الأمريكية، ولا يمكن نسيان مآسي التدمير والقتل وملايين الضحايا خلال الحربين العالميتين في القرن العشرين، ولا المجازر بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي، أو غزو إفغانستان والعراق، ولا معاناة سوريا وليبيا واليمن وغيرها في ظلّ المجتمع الدولي بعد أن اجتازت الحضارة البشرية كل هذه الأشواط الطويلة من التقدم العلمي والتكنولوجي في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين إذ نرى العالم يرجع بالزمن والتعامل إلى عهد الغاب حيث يفترس القوي الأضعف منه، وكأن الأمم المتحدة وميثاقها، ومنظماتها، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجميع المواثيق والعهود الدولية التي وقعت عليها الدول ليس إلا حبر على ورق في فوضى العنف التي نشهدها.

اجتاح الجيش الروسي حدود الدولة الأوكرانية المجاورة مكرراً سيناريو الاجتياح العسكري الأمريكي لدولة العراق، فلا عجب من دولة كبرى تمتلك العضوية الدائمة وحق الفيتو في مجلس الأمن أن تقف مع العالم في حلبة نزال تستخدم فيه صنوفاً من الأسلحة المدمرة بحجة أن المجال الحيوي لأمنها القومي تهدده أوكرانيا. فهل سأل عقلاء الروس؛ أين مجال أمن الدولة الأوكرانية، وهي دولة عضو في هيئة الأمم المتحدة؟

بدأت الحرب، وسقط فيها مئات الضحايا وربما الآلاف، ودمرت بيوت وبُنى تحتية، وتهددت (زابوريجيا) محطة الإنتاج الكهربائية النووية، ولو لحقها ضرر لتسببت للبشرية بكارثية أعظم من كارثة تشيرنوبل، فهل فكّر مثيروها بالنتائج التي حذر منها زهير ابن أبي سلمى قبل ألف وخمسمئة سنة:

وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتُمُ..

وما هو عنها بالحديث المرجم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة..

وتضرى إذا ضريتموها فتضرم

فتعرككم عرك الرحى بثفالها..

وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم وها هي الحرب بدأت لكن متى تنتهي؟ وكيف تنتهي؟ وهل هناك من يستطيع تحديد ذلك؟

لقد وضعت هذه الحرب العالم على شفير هاوية لحرب عالمية ثالثة، إن حدثت ستكون كارثة، وكشفت زيف الادعاء المستور للصراع الخفي بين الدول الكبرى، فليس ما يعلن من الدعوة للسلام، ونشر ثقافة حقوق الإنسان هو الحقيقة الظاهرة، إنما هو غطاء لروح الحقد المستتر في الصدور كما يقول زفر بن الحارث الكلابي في رواية:

وقد ينبتُ المرعى على دِمَنِ الثّرى..

وتبقى حزازات النفوس كما هي

نعم، هذه هي الصورة المضمرة في الصدور، وما بنته الدول الكبرى من تفردها في حق العضوية الدائمة، وحق الفيتو يُظهر الآن تنمّرها، وخرقها للمواثيق والعهود الدولية، وتعنتها الكبير باستخدام القوة غير المبرر لتركيع الدول والسيطرة عليها، والعودة من جديد للاحتكام لشريعة الغاب، وجرّ العالم لمهاوٍ غير محسوبة النتائج والآثار على البشرية جمعاء.

إلى متى تبقى هذه الحرب باردة حيناً، وساخنة حيناً؟ ومتى تُجمع دول العالم على تصحيح ميثاق الأمم المتحدة الذي منح الكبار حقوقاً مميزة؟ ومتى يعمل الجميع على وقف العنف ونشر السلم والأمن الدوليين؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني