يسألونك عن الكتابة
يسألونك عن الكتابة، قل: هي نداء داخلي لا تستطيع الذات معه رفضاً. إدمان ولا إدمان الخمر أو التبغ. فيض إن حوصر في الصدر قتل. هاجس دائم بالحاضر والمستقبل، بالأشياء الصغيرة والكبيرة. بالفرح بالحزن بالألم بالحق بالجمال بالحب بالتمرد بالتأفف.
الكتابة حضور للكاتب في الوجود، معناه الحقيقي، وحده الكاتب الذي لا يتصوَّر نفسه على نحو آخر.
مِنَ الفيلسوف الذي يمضي عمره باحثاً عن حقيقة كي يفترسها، إلى الشاعر الذي يجعل من لهب الأنا كلاماً، مروراً بالرسام الذي يعيد تشكيل الوجود باللون فيكون الوجود جديداً، إلى النحات الذي يبعث الروح بالحجر والحديد والخشب، إلى الموسيقى الذي يعين الروح أنغاماً. كل هؤلاء لا يرون وجودهم إلا كما يريدون، فرحين بذواتهم، إحساسهم بالثراء لا يوازيه إحساس أي ثري.
لا تسألوا الكاتب لماذا يكتب، هذا أشبه بسؤال العاشق لماذا يعشق.
الكتابة ولادة بكل آلام المخاض. بمعزل عن شكل المولود يأتي كاملاً بهياً، ذكراً أنثى أشقر أسمر، الكتابة ولادة.
بين الكاتب وشبه الكاتب فرق في أنَّ الأول يعرف آلام الولادة والفيض، فيما الآخر خطاف سراق دون أن يرفَّ له جفن. شبه الكاتب قمّاش هبّاش عمّاش.
من أغرب الغرائب أن يتشدَّق أحدهم بالقول: ما جدوى الكتابة؟ لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ ولهذا فأنا لا أريد أن أكتب.
هذا قول هراء، من لا يكتب لا يستطيع الكتابة قولاً واحداً، ما من شخص عقيم إلا لأنه لا نداء داخلياً يدعوه للكتابة، والقول إنه مثقف ويعرف الكثير، أكاديمي كبير، ولو كتب لبزّ أقرانه، قول لا معنى له بالإطلاق.
وسائل يسأل: وماذا عن أولئك الذين كتبوا وتوقفوا عن الكتابة، ويقولون إنهم توقفوا عن الكتابة لأنهم وجدوا أن لا قارئ ولا ثمرة من الكتابة.
وهذا أيضاً قول باطل بالمرة. وتفسير توقفه عن الكتابة لا يعدو أن يكون الرجل قد جف. وهذه حالة قد يعيشها بعض من الكتّاب على اختلاف اهتماماتهم.
وقد يكون الذي كتبوه أهم من كثير مما كتبه غيرهم. فليس معيار قيمة المكتوب بعدد الكتب والمقالات التي يمتلكها هذا الكاتب أو ذاك، أو بعدد اللوحات لهذا الفنان أو ذاك، بل في حضور الإبداع الذاتي في الأثر.
شخص لا يكتب شخص لا يعرف أن يكتب، ليس لديه موهبة الكتابة، الكتابة ليست تعلم بالأصل، الكتابة ماهية تصقل ذاتها بالخبرة، كفوا عن السؤال: حتى الآن لا نعرف لماذا كان عازفاً عن الكتابة، مع أنه لو كتب لأبدع؟ سؤال كهذا ليس سؤالاً، سؤال لا معنى له: هو لا يعرف أن يكتب ببساطة، إنه غير موهوب، حتى لو أوحى بكلامه الشفاهي للبسطاء إنه قادر على الكتابة، الشفاهي والمكتوب عالمان مختلفان إلا عند الندرة من المبدعين.
الكتابة تلك التي لا يصيبها البِلى مع الزمن، الكتابة تلك التي تولد ويولد معها روح خلودها.