واشتبكت يدانا
عدتُ لأفي وعداً قطعته لأبي، تجوّلت يومين في شوارع العاصمة، شاهدت الفرحة تطغى على الوجوه، والزينات معلّقة في جنبات المدينة، وعلى الشرفات والمآذن والكنائس. قررت الذهاب إلى القرية. دخلت محطة الحافلات.. حجزت في إحداها.. جلست أنتظر…، مسّني صعق كهرباء. بضع ثوانٍ أعادتني ثلاثة عقود عندما فُصل والدي من عمله – بشبهة انتسابه لحزب معارض – وعدنا إلى القرية…
غريب دخل باحة المدرسة. رأيتها سمراء كحبة حنطة، تتنقل بين التلاميذ كفراشة تدور على الزهور.. عصفورة دوري لا تهدأ عن الحركة. في شعرها شكلة طائر بطريق، وشريطة بيضاء تربط آخر جدائلها.. تزقزق فيضحك الجميع.. تنط وتقفز فيصفّقون. وقفت أتابع حركاتها حتى رنّ الجرس.. اصطفوا وحيّوا العلم.. راجعت المديرة فادخلتني الفصل. أول ما شاهدت ابتسامتها بين الجميع؛ ولأني طويل أجلستني المعلمة في آخر المقاعد. ومن البداية أحسست أنها منافستي. كانت تقفز وتصفّق إذا ما حازت علامة أعلى؛ فأكظم ألمي وأعدّ العدة للآتي، وإن تفوّقت عليها أبادلها ابتسامة فتتفجّر وجنتاها، وتلمع عيناها بدمعة تعز أن تنفر…
اشتدت المنافسة بيننا. كنت أشعر أن المعلمات يتعاطفن معها، فهي الابنة الوحيدة للمديرة، ومدللة المدرسة. حاولت جاهداً أن أتفوّق ولو بدرجة واحدة طوال السنة، وظلت المنافسة على أشدها في المرحلة الإعدادية حتى نلت علامتين أعلى منها في النهاية. انتظرت ردّة فعلها، سبقتني فجاءت وأمّها تهنئاني. شدّت على يدي بقوة وابتسامتها تطفح بشراً على خدّيها، شعرت أنها تفصح عن خلجات نفس صادقة، تمنيّت أن أضمها تلك الساعة…
انتقلنا إلى المدينة.. لا يوجد مدرسة ثانوية في قريتنا.. بقينا في فصل واحد. كنا نذهب ونعود معاً.. نجلس في الحافلة متجاورين.. أحس بدفء يدها تزداد مع الأيام، وفي فصل الربيع أثناء رحلة المدرسة توقفنا على سفح ربوة، جلسنا فوق العشب متقابلين، نظرت في عينيها.. رأيت سماء وطيوراً وأشجاراً… وعلى شفتيها فرحة تتراقص.. سألتني: ما بك؟
– أسرح في البعيد…
– وماذا ترى؟
– أرى نفسي فارساً يمتطي جواداً، يخطفك بعيداً إلى دنيا جديدة
– وتردفني خلفك أم …؟
– أحضنك بيدي وأرخي له العنان على غاربه يأخذنا على هواه
– وعدٌ…؟
– نعم، ولن أخذلك
أعلن مسؤول الرحلة: هيّا إلى الحافلة. كان ذاك اليوم أهنأ أيام حياتي. ولما عدت وجدت أمي وأختي دجاجتين تدوران في قفص، سألت: ما بكما…؟
– أبوك لا ندري أين هو الآن…
– ماذا…؟
– غادر منذ الصباح، وبعد ساعتين جاءت دورية…، سألتنا عنه.. فتشت البيت، لم تترك زاوية.. وأخذت كتباً وأوراقاً، وأبلغتنا أن يراجع الدائرة.
شعرت بألم ممض.. ربما لن أراه أبداً. لم يعد يومها.. ولم نعرف له مكاناً…، شاع الخبر في القرية، بعضهم تأسّى لحالنا، وآخرون تخلصنا من منتقد للحكومة ليل نهار. (بهيرة) بكت كثيراً.. قالت: لن أغفر لعمي، باع نفسه…، هو من وشى بأبيك، سمعته يتباهى بها…، وبعد شهر تلقيت رسالة مقتضبة بخط يده، أنا بخير.. سأعمل جاهداً لتلتحقوا بي، اكتم الخبر وأحرق الرسالة. فعلت ما أمرني.. وبعد شهرين قابلت أحد أصدقائه، قال: استعدوا للحاق بأبيك، وليلة المغادرة قابلت بهيرة.. بكت… أنتظر أخبارك، وطبعت على خدي قبلة عجلى…
عشت في بلد اللجوء غريباً، كانت رسائل بهيرة سلوتي، وآخرها بعد أن أنهت الثانوية أجبروها بحكم الموروث أن تتزوّج من ابن عمها. أكملتُ دراستي…، وبعد سنوات تُوفّي والديّ، وتزوّجت أختي من صديق لي. وبقيتُ أنتظر العودة إلى مرابع الطفولة…
أشرقت شمس سماء صافية.. غردت العصافير، وتنفّس الناس نسيم ربيع جديد، وهزجوا في ساحات وشوارع المدن وأزقة القرى، وهتفوا…، زرت قبر والدي أخبرته أنّي سأتنسّم عنك عطر زهور الربيع في وطن حلمتَ به كثيراً.
ما ظننتُ أني سأرها. كانت تجلس بجوار شاب حسبته ولدها. علا صوت: الحافلة جاهزة للانطلاق.. ودّعتْه وصعدتْ. كانت المفاجأة.. جلست محاذاتي.. تلاقت العيون.. شهقتْ.. أنتَ!!.. متى جئت؟
– منذ يومين، كيف حالكِ؟
– بخير، وأنتَ؟
– كما ترين.. بعض الشيب…
– عدتَ لوحدك؟
– نعم
– وأسرتك؟
– مازلت عَزَباً، ولدك الذي ودعته؟
– إنه ابن خالتي، وأنا مثلك.
– كيف؟
– تُوفّي زوجي منذ خمس السنوات دون أن ننجب
حكت لي قصة حياتها.. حدثتني عن القهر الذي عاشته.. عن معاناتها.. عن فرحة الناس بالتغيير…، عن تشفيها باحتقارهم لعمها المخبر. وقبل أن نصل سألتها: هل مازال لي مكان…؟
– ابتسمت.. ألا ترى أنّنا لم نعد صغاراً؟!
– وهل للمشاعر العاطفية عمر؟
– نكزتني بيد حانية.. وحمرة تتوّج خديها.. يا لك…
– ومتلعثماً قلت: تقبلين بي زوجاً؟
– إنْ بقيتَ هنا…
– لقد وجدتُك.. لن أهاجر…