هل تُشجع واشنطن على تطبيع عربي مع الأسد سراً وتُعارضه علناً؟
لم تكن أجواء المنطقة مُهيئة لكل تلك التحولات الكبرى، ولم يكن أكبر المراهنين على استمرار المملكة العربية السعودية بأخذ مسافات عن السياسات الأمريكية في المنطقة (مقتدية بالنموذج التركي الذي سَن تلك السُنة وقطع بها أشواطاً كبيرة قد لا يكون من السهل التراجع عنها).
فوجئ الجميع على حدث تاريخي لا يتمثل باستعداد سعودي/ إيراني لتبريد الأجواء بينهما وبالمنطقة عموماً والشروع بإعادة العلاقات الدبلوماسية الى سابق عهدها بل بمكان الاتفاق وراعي اللقاء، إذ أتى هذا الاختراق الصيني الدبلوماسي تتويجاً لجهوده باستقطاب كل الحانقين على النظام الدولي القائم وبالذات على سياسات الولايات المتحدة باعتباره قطباً عالمياً صاعداً بل وقد يصبح قريباً منافساً للقطب الأوحد بعد أن غرق القطب الروسي في أوهام التاريخ والمستنقعات الأوكرانية وخرج بالتالي من رهانات المستقبل.
كان تتويج الصين كمرجعية دبلوماسية عالمية ترعى وتضمن اتفاقات الخصوم وتنزع فتيل الانفجار عنها، ويؤكد أهلية التنين الصاعد بممارسة تلك الادوار في مناطق أخرى.
وكان طبيعياً أن تشمل التهدئة الإقليمية كل الملفات الساخنة في المنطقة وذلك وفقاً لدرجة اهميتها لكل طرف، ومما لاشك فيه أن الخطر الحوثي يستحوذ على الهم والاهتمام الأكبر في علاقة السعودية مع إيران، وبالمقابل يستحوذ منع انضمام المملكة إلى سلام إبراهيمي مع دولة الاحتلال (مهدت له بل هددت به المملكة) يُنهي حالة الصراع العربي الإسرائيلي بذريعة تشكيل تحالف أمني وعسكري شرق أوسطي عبري/عربي برعاية غربية لمواجهة أخطار الحرس الثوري الإيراني، وهو الأمر الذي سيؤدي بالضرورة الى حل القضية الفلسطينية حلاً واقعياً يقضي على استثمار إيراني بادعاء تحرير فلسطين وقدسها وأقصاها، ويسحب الذريعة والرافعة الأيدلوجية والخطابية لاستمرار النهش بالأجساد العربية على مذبح الشعارات الفارغة والتي تجد لها اذناً صاغية في بعض الدول العربية.
ومن الطبيعي أن تشعر الولايات المتحدة بقلق بالغ من تنامي دور الصين العالمي والدخول القوي للخليج العربي دبلوماسياُ وسياسياً بعد تمدده الاقتصادي فيه، وبذلك تصبح الصين متواجدة على ضفتي الخليج العربية منها والإيرانية، وهو من الحصون الهامة للإستراتيجية الأمريكية (والمضطربة الآن)، لكن السياقات العامة لتهدئة التوتر في البؤرة الخليجية الملتهبة يصب باستراتيجيات ومصالح الولايات المتحدة باستمرار الحرب في أوكرانيا والتركيز الغربي على جبهة وحيدة والحيلولة دون استفادة القيصر الروسي من تفجير مناطق صراع محتقنة لكنها كامدة الآن للتشويش على التركيز الغربي في الجبهة الاوكرانية بما يمكن اعتباره هروباً للأمام.
لكن لا تُنفذ المملكة العربية السعودية سياسة أمريكا بالمنطقة، بل تحاول حماية نفسها وشقيقاتها الأصغر من تداعيات رد إيراني لطالما هدد به الحرس الثوري الإيراني في حال قيام الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي بضربة عسكرية حاسمة أو معيقة لإمكانية امتلاك إيران لسلاح نووي، بمعنى النأي بالنفس على أن تكون ساحة لحرب أو ردود فعل لها او حتى تبادل رسائل بين الخصوم.
وبذلك تضمن المملكة العربية السعودية تحييد أذرع ولاية الفقيه الضاربة والمنفلتة عن أي رادع قانوني أو أخلاقي تلك الاذرع المعروفة وهي الميليشيات والمسيرات والمخدرات، والصواريخ البالستية.
وبما أن مناطق سيطرة الأسد في الجغرافية السورية مرتعا وموقعا لكل تلك الأسلحة وخاصةً المخدرات فإن تحييدها (كما تعتقد المملكة) يُعد مكملاً لسلاسل التهدئة الهشة مع أذرع الحرس في أماكن أخرى مقابل تنازلات تُقدم للأسد أقصاها إقامة علاقات دبلوماسية بين الرياض ودمشق وإصرار المملكة على عدم منح الشرعية الكاملة للأسد بعلاقات طبيعية بل بالاعتراف بحكومة امر واقع وحصر التعامل بالجانب الإنساني فقط مع تمسكها بأولوية الحل السياسي في سورية (سواء تم ذكر القرار 2254 أو لم يذكر)
وكان ملفتاً للنظر التدافع الدبلوماسي وزحمة الواصلين إلى دمشق أو المواسين عبر الإعلام أو المتصلين بالهاتف قُبيل وبعد كارثة الزلزال التي حدثت في بدايات شباط الماضي، وعلى وقع احتدام المعارك في أوكرانيا وانتظار توضح بداية مآلات اتجاه مسار الحرب في الصيف الأوكراني الساخن، كانت الحركة المكبلة في الشرق الأوسط تنتظر هدايا القدر لانطلاقها وأتاها الفرج بالكارثة، فبدأت دبلوماسية الكوارث الناعمة والمغلفة بالطابع الانساني والمنغمسة للعظم بأهداف سياسية بعيدة عن كل الشعارات الإنسانية المرفوعة.
بحجة مواساة الشعب السوري تَم كسر محظورات صمدت لأكثر من عقد من الزمن، فشاهدنا وزير الخارجية المصري في دمشق، وتترجم لين التصريحات السعودية الصادرة عن الأمير فيصل بن فرحان تجاه النظام في دمشق وضرورة تغيير التعاطي مع الملف السوري حيث إن المقاربة السابقة لم تكن ناجحة بنظر العرب فاستمرت إيران بالتواجد بقوة بل تعزيز وتجذير ذلك التواجد في سورية وازداد كل ذلك على حساب تآكل الدور الروسي في سورية و المستمر بالضعف، وتَحول مناطق سيطرة النظام إلى عصابة دولية لإنتاج وترويج المخدرات للجوار أولاً والعالم ثانياً، عندما حطت طائرات الشحن السعودية في مطار حلب (الإيراني) مُحملة بالمساعدات الإنسانية والمبادرات السياسية وتُنذر بعهد جديد قد بدأ.
لم يكن هناك خطة أو مبادرة عربية للتعامل مع النظام الاسدي بل كان هناك اتفاق أو توافق على جَو جديد مُشخص جيداً وتم التفاهم على تحقيقه إما بالتنسيق فيما بينهم أو بتبادل الأدوار أو حتى بالتظاهر بالمعارضة له، فكان المشهد يبدو مُرتبكاً وارتجالياً أحياناً أخرى وغامضاً في أحياناً أخرى.
فعلى وقع القصف الأمريكي الدبلوماسي والتصريحات اللينة عن عدم استعداد واشنطن للتطبيع مع النظام إلا بشروطها المعروفة مع عدم تشجيع أو ممانعة من يرغب بذلك وإن كانت لا تنصح بها، هذا هو الضوء الاخضر الساطع الذي فهمه أحد السياسيين الأمريكيين المنخرطين بملفات المنطقة وآخر مبعوث أمريكي جمهوري للملف السوري في العهد ما قبل الحالي وعبر عنه أمام لجنة فرعية في مجلس النواب وتم نقله للإعلام.
وبالعودة للارتباك العربي كان ينوي وزير خارجية الأسد بزيارته للقاهرة البناء على زيارة وزير الخارجية المصري لدمشق بتجسيد عودة النظام السوري للحضن العربي من أوسع أبوابه عبر تأكيده على اهمية التضامن العربي والعلاقات العربية المشتركة والامن القومي العربي واستحضار تاريخ العلاقات الجيد بين نظام الأسد وجمهورية مصر العربية، إلا أنه واجه موقفاً مصرياً مختلفاً وهو الإصرار المصري على تطبيق مفردات الحل السياسي الدولي في سورية كشرط لإعادة تعويم الأسد.
ومن مشاهد الارتباك أيضاً استدعاء فيصل المقداد على عجل إلى جدة في ظل غياب الوزير السعودي عن المملكة الذي التقاه لاحقاً، وصدر بيان عن الخارجية السعودية بنهاية الزيارة كان يمكن قراءته كل طرف بما يريد، وهلل وطبل إعلام الاسد لاختراق تاريخي، وتم دعوة وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي مع مصر والأردن والعراق إلى اجتماع تشاوري على عجل وتوقع الجميع أن يصدر عن الاجتماع توافقاً عربياً على عودة مبدئية لنظام الأسد لشغل مقعد سورية في الجامعة، لم يحصل ذلك وصدر بيان مُخيب لنظام الأسد يحض فيه النظام على الانخراط الجدي بالحل السياسي دون الإشارة لعودته للجامعة العربية، ومن ثم اورد البيان فقرات أخرى لا تمت للملف السوري بصلة في إشارة من الحضور أن الاجتماع كان روتينياً وليس خاصاً بالشأن السوري.
كان نظام الأسد يتوقع أن يعترف به العرب أنه هو سورية في حين يرى العرب أنه أحد مناطق الامر الواقع وعلى يقين ضمناً أن الأسد هو لب المشكلة وأنه لن يكون جزءاً من أي حل، بمعنى لا عودة لنظام الأسد إلى ما قبل عام 2011.
بدأت التسريبات تتوالى بأن هناك خمس دول عربية رافضة لإعادة الأسد إلى الجامعة وهي (مصر، الكويت، الحكومة الشرعية اليمنية، قطر، المغرب)، مع يقين الجميع أن الحكومة اليمنية لا يمكنها الخروج عن الإرادة السعودية، وأن مصر تتلون أو تتردد في مواقف لا تحتمل الضبابية، وأن القطريين بمواقفهم ذات السقف المرتفع المعلنة من نظام الأسد إلا أنهم يقولون إن قطر لن تقف عائقاً أمام الإجماع العربي إن حصل.
ثم ظهر الارتباك واضحاً (وكأن أمر عمليات قد صدر) بالزيارة المفاجئة لوزير الخارجية السعودي لدمشق حيث يبدو أنه تم ترتيبها في حينها ولم تكن مجدولة وبوجود وزير خارجية الأسد بجولة بين الجزائر وتونس وصل ابن فرحان لدمشق واجتمع مع الأسد وغادر، ولم يُشر بيان الخارجية السعودية عن اللقاء إلى دعوة سعودية تم تسليمها للأسد لحضور قمة الرياض العربية المقبلة وكان البيان يتكلم صراحة عن حل سياسي للقضية السورية مع العبارات التقليدية عن وحدة الأراضي السورية ومحاربة الإرهاب.
وأثناء وجود الوزير السعودي في دمشق، وبجو لدومينو عربي يتدحرج إلى الفيحاء المحتلة أعلنت القبس الكويتية عن مصدر مسؤول في الخارجية عن عزم وزير الخارجية الكويتي زيارة دمشق في آخر أيام شهر رمضان، وذلك الإعلان الذي دام لساعات، أوحى أن العقبة الكويتية تم تذليلها بل إن الكويت مندفعة بهذا المسار ولم تكتف بموافقتها بل بالمساهمة بتعزيز ذلك المسعى، بعد ساعات من إعلان الصحيفة الكويتية العريقة للخبر صدر بيان رسمي عن الخارجية بنفي ما أوردته القبس، في إشارة إلى إلغاء الزيارة بآخر لحظة، ويبدو أن الجهد العربي يعمل بالساعة وليس باليوم أو الأسبوع.
السفيرة الامريكية باربرا ليف ومن موقعها العارف والمطلع على السياسة الأمريكية في سوريا قالت إن واشنطن ترجو الحصول على مكاسب من الأسد لقاء إقامة العلاقات معه كالإفراج عن معتقلين وتسهيلات بعودة لاجئين، بمعنى ألا يكون مجانياً، وأصرت السفيرة على أن الولايات مازالت على موقفها من النظام المجرم والتشدد بعقوبات قيصر وغيره وعدم البدء بإعادة الإعمار قبل تحقيق شروط مطلوبة من النظام ومعروفة منه.
هل الولايات المتحدة مع تعويم الأسد؟
- يحظى المسار العربي للانفتاح على نظام الأسد بدعم أمريكي ضمني ومشروط ولتحقيق غايات منها عرقلة المسار الرباعي الذي ترعاه موسكو وتنخرط فيه أنقرة بجدية ولا تتحمس له إيران ونظام الأسد، وترى الولايات المتحدة أنها المستهدفة بالدرجة الأولى من هذا الطريق والذي لا يخفي أن أهم أولوياته إخراج الولايات المتحدة من سورية وتحالف نظام الأسد وتركيا تجاه عدو واحد هو قسد الحليف المحلي المفضل والوحيد للولايات المتحدة في سورية.
- إن دفع الولايات المتحدة مسد لإعلان مبادرة مكرورة غير جدية، تم تقديمها على عجل موجهة لنظام الأسد، تهدف لزرع الأسافين والحيلولة دون تقارب تركي/أسدي ضدها، وتقديم مسد للعرب وكأنها إحدى القوى السوري الموجودة على الأرض، الجاهزة لدعم خطة سلام عربية تكون على حساب الخطة الرباعية التي جمدها الإيرانيون والأسد، وأثمر الضغط الروسي مؤخراً عن تصريحات إيجابية لبشار الجعفري سفير النظام لدى موسكو عن رغبة دمشق الانخراط بتنقية العلاقات مع أنقرة.
- لا تخفي الولايات المتحدة رغبتها بتبريد الملف السوري وغيره من الملفات الجاهزة للانفجار في المنطقة لعدم استفادة الرئيس الروسي أولاً ونظام الملالي بدرجة أقل من إضعاف التركيز الأمريكي والغربي على الجبهة الأوكرانية، وبالتالي لا ترد على الاستهدافات الإيرانية لقواعدها شرق الفرات بالشكل المطلوب، ومارست ضغوطاً كبيرة لكبح الجموح الإسرائيلي بالتصعيد داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وبالرد على حملات إطلاق صواريخ لأذرع الحرس الثوري عليها من ثلاث جبهات (سورية ولبنان وقطاع غزة) مع مباركتها الضمنية للخطوة السعودية تجاه إيران بشرط ألا تخرج عن إطارها التكتيكي كهدنة إلى حين ظهور نتائج الحرب في أوكرانيا وقصم ظهر بوتين والذي يشكل حجر الأساس بالتحالف الروسي الإيراني الصيني، وقتها يتم التعامل بقسوة مع التمدد الإيراني.
إن لواشنطن مصالح كبرى في تهدئة في سورية ولن تَجنِ شيئاً دولاً عربية كثيرة من إغضاب واشنطن وتحديها مقابل تعويم نظام مجرم قطع على نفسه كل خطوط الرجعة للعرب والمجتمع الدولي عبر ارتكابه لكميات ونوعيات عنف مُوثقة دولياً وغير مسبوقة تجاه المدنيين السوريين، وتحوله لذراع إيرانية لتهريب المخدرات وتأمين قواعد ومصانع لوجود عسكري نوعي لميلشيات الحرس الثوري الإيراني، مع تماهيه المفرط مع المشروع الروسي واعتبار نفسه أحد مكوناته، وليس آخرها إعلان رأس النظام من موسكو عن استعداد بلاده لإعطاء روسيا ما تحتاجه من القواعد العسكرية في سورية وسعيه ليصبح الوجود العسكري والنفوذ الروسي دائماً وليس مؤقتاً.