fbpx

هل تنجو سوريا من شبح التقسيم؟

0 5٬378

في خِضمّ المشهد الحالي في الشرق الأوسط والذي يجري فيه تغيير كامل للواقع الجيوسياسي والذي كان سائداً منذ بداية القرن الحالي أو ما قبله بعشرين عاماً خلت أيّ منذ انتصار الثورة الخمينية في عام 1979 حيث شهدت المنطقة ولادة خلافة شيعية لا تؤمن بالسيادة الوطنية للدول وتَعتبر نفسها مسؤولة عن الشيعة في كل العالم، وبالتالي ظهور تمكين سياسي ديني لدولة دينية بعد غياب الإمبراطورية العثمانية وانكفائها إلى دولة علمانية أتاتوركية.

بعد ضربات أيلول التي طالت الولايات المتحدة والرد الإنتقامي الأمريكي الأهوج أو الاعتباطي، استفاد نظام ولاية الفقيه بتخليصه من أهمّ عدوين يحيطان به من الشرق والغرب، بتدمير نظام الرئيس العراقي صدام حسين، الأمر الذي سَهّل على الحرس الثوري التهام العراق كلقمة سائغة، ونفس السيناريو حصل بزوال طالبان حيث لم تعد هناك إمارة سنية تُهدّد الخلافة الشيعية وتستنفذ جهودها أو قواها.

بعد ظهور التمدد الإيراني في الشرق الأوسط وتَحوّله من الشعارات إلى التجذّر على الأرض وذلك ببروز قوة نوعية أنشأها الحرس الثوري في لبنان أسماها حزب الله، وسيطرة مجموعة ميليشيات شيعية على العراق، وكان الوريث في سوريا أضعف كثيراً من أبيه بحيث جعل من سوريا إحدى ساحات النفوذ والتأثير الإيراني وتكريسه لتحالف أقليات في المنطقة بحيث لم يخجل نظام ولاية الفقيه من اعتبار حكم البعث في العراق كافراً ببنما كان البعث السوري مؤمناً وحليفاً..

تَغيّر المشهد الشرق أوسطي كلياً ببروز القوة الإيرانية والنموذج التبشيري الإيراني المُرتكِز لسرديات دينية وتاريخية وعسكرية.. وتوقع البعض أنّ الشرق الأوسط الذي أنتجته سايكس بيكو والمرتكز على الحدود الوطنية للدول قد ولى حيث أزال نظام الولي الفقيه الحدود وأصبح من يركب السيارة في طهران يصل إلى بغداد ثم دمشق ثم بيروت دون أن يحمل جواز سفر بل دون جمارك للتفتيش، وكانت الجنسية السائدة هي الانتماء لإحدى الميليشيات المنضوية تحت عباءة الولي الفقيه لايهم إن كان فارسياً أو لبنانياً أو سورياً أو باكستانياً أو أفغانياً أو يمنياً الخ.. المهم إنه من شيعة ولي الفقيه أو من تَشيّع سياسياً من بقية الطوائف.

وبسبب اليقين عند بعضهم من توظيف المشروع الديني الإيراني من قبل الولايات المتحدة خدمة لأهدافها الإستراتيجية في المنطقة مع استفادة إسرائيل من وجود ذلك العدو الديني الذي يريد إزالتها من الوجود نظرياً بينما عملياً يعمل على تدمير الدول والمجتمعات العربية السنية وهي العدو الإستراتيجي والتقليدي لها ويقوم من يدّعي العداء لها بمحاربتهم، بمعنى خدمة إيرانية مباشرة لإسرائيل بإضعاف محيطها العربي المعادي لها، وبروز عدو حقيقي ومباشر للعرب السنة غير إسرائيل وتوجيه بوصلتهم للتصدي له والنظر إلى العداء مع إسرائيل كعدو مُؤجّل بل ممكن أن يكون حليفاً محتملاً في يوم من الايام وهذا كان أمراً متوقعاً وعبر عنه ولي العهد السعودي في عام 2022 عندما قال إنّ إسرائيل حليفاً محتملاً..

 كان المتوقع أن يستمر التخادم الأمريكي – الإسرائيلي مع إيران لعقود وأن يجدوا صيغة لتقاسم المصالح والنفوذ، وبسبب تمركز الأمريكان شرق الفرات والأتراك في غربه و كان مستحيلاً على الإيرانيين وحلفائهم الروس التخلص من هذا الواقع بدأ يتردد ما يُعرف بسوريا المفيدة التي بقيت من سوريا الأسد بعد الثورة واستمرار الجمود في خطوط القتال التي أفرزت تلك المناطق الثلاث بل رضى كل فريق بما تَحصّل عليه وعدم استعداده للاصطدام بفريق آخر من أجل زيادة حصته، وكان استمرار هذه الحالة لسنوات أخرى كفيل بتقسيم فعلي لسوريا على الأرض وتحويل المؤقت إلى دائم.

وكان المشهد الجيوسياسي الدولي ينتظر قدوم بجعة سوداء لخلط الأوراق وبداية حقبة دولية جديدة تترك آثارها وتداعياتها على سوريا وجوارها للخروج من الوضع الحالي، وحدث مالم يكن في الحسبان وظهرت البجعة السوداء عندما غزى بوتين أوكرانيا وقامت الدنيا ولم تَقعّد.

لا يمكن لمن يريد قيادة النظام الدولي (أو المشاركة به على الأقل) إلا أن تكون له سيطرة على قلب العالم وهو الشرق الأوسط او أن يكون له موطئ قدم راسخ فيه.

وبحدوث الغزو الروسي لأوكرانيا بات واضحاً الصراع الدولي على السيادة العالمية، وبعد أشهر انطلق صراع آخر في البحر الأبيض المتوسط تلاه صراع في البحر الأحمر كانا مُكمّلان للصراع الدولي في البحر الأسود، وتلك الحروب الساخنة في البحار الثلاثة (الأسود والأبيض والأحمر) سَيتمخّض عنها خارطة جيوسياسية جديدة لتموضع القوى تمتد لقرن على الأقل ويُمكن اعتبارها حقبة دولية جديدة.

وسوريا إحدى الساحات الحقيقية لتلك الحروب بين المحورين الشرقي والغربي وعلى أراضيها يدور جزء منها..

كانت بعض أبواق نظام الأسد ومن يدور في فلكه تُحذّر من خطر تقسيم سوريا وانفصال الأطراف عن المركز، مع الإشارة صراحةً أو ضمناً إلى أنّ المركز الذي يحكمه بشار الأسد واستمراره فيه هو الضمانة الوحيدة لعدم تَشظّي البلاد، وأنّ المسؤول عن الوصول لحافة الهاوية تلك هي اندلاع ثورة على الأسد بمعنى تجريم كل تلك السردية الثورية.

ولأنّ سوريا كما هو متعارف عليها وُلِدَت لأول مرة باتفاقية غربية (سايكس – بيكو) ولم تكن تاريخياً موجودة قبل ذلك، فإنّ صناعتها بهذا الشكل مع كل الكوارث التي ارتكبها الاستعمار الغربي بتجزئة بلاد الشام والرافدين بعد إسقاط الدولة العثمانية، إلا أنّ تلك التقسيمات (بما فيها وعد بلفور الذي أنشأ دولة لليهود في سوريا الطبيعية) كانت تُعبّر عن المصالح الإستراتيجية الإمبريالية للدول الغربية ولم يَتغيّر شيء في تلك المصالح بعد مائة عام وما زال النظام الدولي الغربي يقود العالم بانتصاره بثلاثة حروب في القرن العشرين، الثالثة كانت باردة مع الإتحاد السوفييتي، وبعد الحرب العالمية الثانية تَقدّمت الولايات المتحدة لقيادة النظام الدولي وتراجعت بريطانيا وفرنسا خطوة للوراء وتم إنشاء حلف الناتو كذراع عسكري وتحالفات متعددة للغرب الجماعي وهؤلاء من يخوضون المعركة أو الحرب الأولى في هذا القرن لتحطيم الإتحاد الروسي ومن يقف معه والذي حاول تَحدّي الإرادة الغربية.

 لذلك الحفاظ على شرق أوسط غربي التوجّه والهوى هو مُسلّمة من مُسلّمات التحالف الغربي ولن يسمحوا لأحد بالاقتراب منه وبالأساس كان ذلك أحد أسباب إنشاء دولة إسرائيل في منطقتنا كرأس رمح حامي لتلك المصالح.

ما أفرزته الحروب الدائرة في البحار الثلاثة الآن، أنّ عزل الإتحاد الروسي عالمياً هو هدف غربي أول، وبالتالي يترافق العزل الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية مع الحرب الساخنة في أوكرانيا وتمّ الإطاحة بكل الخطط الروسية لجعل أوربا مدمنة على الطاقة الروسية وبالتالي إحكام السيطرة عليها تدريجياً، وقد أوقف الأوربيون كل إمداداتهم من النفط والغاز الروسيين فوراً ولتأمين مصدر بديل لابد من النفط والغاز الموجود في الشرق الأوسط سواء تحت مياه المتوسط أو في المنابع الأخرى، بل حتى إنّ الشرق الأوسط القريب الواقع على مرمى حجر من القارة العجوز سيكون الممر الحتمي لأي مصادر للطاقة تأتي من آسيا أو أفريقيا، وبالتالي إنّ المساس بالجغرافية السياسية والتي سَتولّد نزاعات وصراعات غير مسموح بها، فلابد أن يسود السلام والاستقرار في تلك المنطقة وضخّ الاستثمارات فيها والبعض يسميها أوربة المنطقة..

 كما أنّ النظام الدولي أفصح عن إستراتيجيته العامة في المنطقة التي تتمحور حول خط البهارات الهندي الذي يربط آسيا بالخليج العربي وصولاً لبلاد الشام وإسرائيل والضفة الشرقية للمتوسط وانطلاقاً منها للقارة العجوز، وهو المحور الذي يحارب محور الصين للتوسع غرباً عبر خارطة الحزام والطريق، وخطوط شمال جنوب التي يسعى الروس والإيرانيون لإنشائها عبر بحر قزوين، وتتم الآن المرحلة التمهيدية لمحور البهارات الهندي باستئصال كل أنواع الميليشيات التي أنشأتها إيران في المنطقة تمهيداً لعدم وجود أيّ تهديد لفواعل دون الدولة وإبرام سلام مع الدولة العبرية بمعنى إنشاء منظومة أمن إقليمي برعاية أمريكية وإبعاد أيّ خطر لتواجد روسي أو ايراني في تلك المنطقة.

لذلك الإبقاء على سوريا بحدودها الحالية أمر بالغ الأهمية للمحور الغربي الفاعل ولن يَسمح بتمزيقها أو نشوء إمارات حرب أو اصوليات قومية أو دينية متطرفة ولن تكون هناك فوضى سلاح ومخدرات وإرهاب ولاجئين، والسماح بتطاير الشرر السوري للإقليم الذي يَضمّ الكثير من العشب اليابس والجاهز للاشتعال بأيّ شرر يتطاير إليه..

 كما أنّ النظام الدولي الذي يُعاقب بوتين على تجاوزه للحدود الوطنية للدول ويُعاقب إيران على استباحتها لتلك الحدود وسبق أن عاقب داعش على فعلتها تلك.

والتاريخ القريب يُقدّم لنا تجربة إقليم كردستان العراق عندما أصَرّ مسعود البارزاني على القيام باستفتاء لحقّ تقرير المصير لأكراد الإقليم والذي نجح بنسبة ساحقة وهو الأرضية التي سيقوم عليها انفصال الإقليم عن العراق واستقلاله بدولة كردية حيث تمنح القوانين الدولية للشعوب المشروعية في إنشاء دولها الخاصة بعد إجراء الاستفتاء، وتم معاقبة البارزاني ونزع درة تاجه بطرده من الدجاجة التي تبيض ذهباً وهي كركوك والتي لن تتمكن حكومة مستقبلية مستقلة في أربيل من العيش بدون موارد اقتصادية ذاتية مُتجدّدة.

وللولايات المتحدة تجربة فاشلة في السودان حينما رعت انفصال جنوبه عن شماله على أساس عرقي وديني ولم تتحسن الأحوال لافي الجنوب ولا في الشمال.

تُعتبر الحدود الوطنية للدول من أهم دعائم النظام الدولي السائد حالياً وهو الأمر الذي يمنع حروباً كثيرة في العالم من الاندلاع مُجدداً.

في سوريا قد تتجه الأحداث إلى دايتون سوري يُتيح خياطة الجرح بكل ما فيه وفق القرار الدولي 2254.. والسوريون أحرار وقتها أن يختاروا بين طريقين، إما طريق سنغافورا وماليزيا أو حتى رواندا أو اجترار التجربة اللبنانية البائسة بتقوقع طائفي ودولة مكونات ومحاصصات تسود فيها حرب أهلية باردة تَتحوّل إلى ساخنة في أيّ لحظة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني