نواقض الوطنيّة
تعجّ الساحة السياسيّة السوريّة على مستوى الموالاة والمعارضة بمبادرات ومسودّات مشاريع سياسيّة تعمل عليها مجموعات من المعارضين السوريين في داخل البلاد وخارجها، أصبحت مشاريع عابرة للقارّات، وتأتي هذه المشاريع والنشاطات على فترة من القمع والاستبداد الذي امتد لأكثر من ستين سنةً من عمر السوريين، وهذه المشاريع جميعها تحمل راية الوطنيّة لكنها في بعض مضامينها تتناقض كليّاً مع مفهوم الوطنيّة، ولتوضيح ذلك لابُدّ من تعريف المفاهيم التالية:
الهويّة الوطنية: هي حالة نفسيّة وروحيّة ووجدانيّة تتجلّى بحبِّ الوطن والارتباط به، والانتماء الوطني، وما ينتج عن ذلك من قيَم وسلوكيّات تّعبِّر عنها، وهذه القيم والسلوكيّات هي مناط المواطنة الفعلي، وهي من القيم الثابتة نسبيّاً وهذا الثبات مبعثه الركائز والثوابت الراسخة للهوية من “اللغة، الدين، الأرض المشتركة، الاقتصاد المشترك، الثقافة المشتركة” وما عداها قابل للتغيّر والتبدّل باعتباره سلوكيّات وعادات قابلة للتحوّل والتطوير، وهي كما قال عنها افلاطون: “هويّة الكائنات هي ما يبقى كما هو رغم كل التغيّرات”.
المواطنة: هي الترجمة السلوكيّة والعمليّة للانتماء الوطني، وهي مصدر الحقوق والواجبات الدستوريّة، وهي المعيار في تقييم صلاح أو فساد المواطن الذي يكمن في مدى التزامه بأداء الواجبات الوطنيّة من الالتزام بمبادئ وقيم، وعادات، وقوانين المجتمع، والدفاع عن الوطن والشعب والدستور، والعمل على الارتقاء بها.
والعلاقة بين الحقوق والواجبات علاقة طرديّة فكلما أدّى المواطن واجباته بالشكل الأمثل كلما استحقّ حقوقه كاملة، وكلما توانى أو أخلّ بواجباته فرّط بحقوقه، “فالوفيّ ليس كالخائن” و”المقصِّر ليس كالمتفاني” و”المُفرّط ليس كالحريص”.
وتفترق المواطنة عن الجنسية بأن المواطنة علاقة وجدانيّة عاطفيّة منبعها الولاء والانتماء لقيم وتاريخ وحضارة الشعب وهي قيمة أصيلة في التكوين النفسي والفكري تخلق مع المرء منذ ولادته على أرض الوطن وهذه الولادة تمنحه كل الحقوق دون الحاجة لطلبها، بينما الجنسيّة هي علاقة قانونيّة تحكم علاقة الفرد بالوطن من خلال قواعد قانونيّة تختلف من دولة لأخرى، وهي علاقة متعدّدة الجوانب القانونيّة فالجنسيّة يمكن منحها للأجنبي كما يمكن منحها لمن أصله سوريّ أو منحها لكل مولود لأبوين سوريين، أو لأبٍ سوريٍّ ولد خارج البلاد، وأغلب قوانين الجنسيّة في العالم تشترط الإقامة الفعليّة المستمرّة على أراضيها لمدّة محدّدة لمنح الجنسيّة، وتضع شروط ومُدد قانونيّة محدّدة لممارسة الحقوق الدستوريّة كمواطن أصيل بعد الحصول عليها.
وبناء على ما تقدّم نخلص إلى أن الهويّة الوطنيّة تقوم على ثوابت مشتركة، وممارسة فعليّة في حماية والدفاع عن هذه الثوابت التي تقتضيها “المواطنة” التي لا تكتمل بدون الركن المعنوي أو النفسي الذي يتجلّى بثلاثيّة “الانتماء والولاء والوفاء”:
– الانتماء للوطن: وهو الشعور بالانتماء إلى الاسرة أولا، ثم البيئة، ثم المجتمع على اختلاف اطيافه وتعدّدها، ومن مظاهره الخوف على مصلحته وإعلائها فوق كل مصلحة، واحترام القوانين والدستور والآداب والأخلاق العامة، والحفاظ على ممتلكاته، وتقبل الاختلافات العقائدية والسياسية والعرقية واحترامها.
– الولاء للوطن: بكل أركانه الثلاث: “النظام السياسي” الذي لا يعني السلطة الحاكمة “بالضرورة والأرض والشعب” ومن مظاهره الدفاع عن سيادة البلد واستقلاله ووحدة أراضيه وعن الشعب ووحدته الوطنيّة ضدّ أي غازٍ أو مُعتدٍ.
– الوفاء: ومن مظاهره الاعتراف بفضل هذا الوطن والشعب عبر المساهمة في رفع شأنه بين الدول، وحماية وتعزيز قيم ومبادئ وعادات وعقائد المجتمع الفاضلة، والعمل على الارتقاء بها إلى اعلى درجات الرقي.
• وعليه فإن نواقض الوطنيّة هي كل ما يخالف هذه الأركان ومن صورها في عالمنا المعاصر:
– تبنّي قيم العولمة: أيّة دعوة من أي سوري أو تبنّي العولمة على حساب خصوصيّتنا الحضاريّة، أو الدينيّة أو الثقافيّة، وتمايزها وتنوّعها، عن طريق إلزام السوريّين بالمعاهدات والاتفاقيّات الدوليّة التي تُركِّز على العولمة “السياسيّة، والاقتصادية، والقانونيّة، والثقافيّة ” بما يخالف قيمنا الدينيّة والاخلاقيّة والقانونيّة والثقافيّة يؤدّي إلى فقدان الهوية الثقافية عبر الاندماج الثقافي القسريّ وبالتالي نزع الولاء من نفوس الأفراد والجماعات، وهجرة الكفاءات والعقول من سوريّة، والانتقاص من الاستقلال السياسي، استغلال الشركات الكبرى للقِوى العاملة بأجور قليلة، وهيمنة وصراعات الدول الكبرى التجاريّة والسياسيّة التي تنتقص من السيادة الوطنيّة السوريّة، ويتحوّل الولاء من ولاء للوطن إلى ولاء للقوى الدوليّة الكبرى.
– الحداثة المكيافيليّة: يتبنّى طيف من العلمانيين السوريين على مستوى المعارضة الداخليّة والخارجيّة مفهوم الحداثة من منظور الفيلسوف “مكيا فيلي” التي تقوم على “البناء المعرفي على قطيعة مع ما قبل الحداثة أي مع تاريخ الأمة وموروثها الحضاري، وأن السياسة لدية هي عمل منزوع “القيمة”، فالأخلاق والقيم الدينية ليس لها مكانة في عالم السياسة”. وتحيّز هؤلاء للمشروع الغربي الذي مكّن المواطن الغربي من حلّ مشكلته المتمثِّلة في طغيان السلطة الدينيّة “الكنيسة” واستبدادها، والتحرّر منها ومن سلطان الحاكم بموجب الحقّ الإلهيّ المقدّس.
إن استنساخ هذا المشروع وانتاجه على قاعدة أن “العلمانيّة هي الحلّ” التي تقوم على افتراض أن المشكلة في سوريّة مع الإسلام، ووهم “الدولة الدينيّة المستبِدّة” و”الإسلام السياسي” في إشارة لأي حركة سياسيّة تتبنى خطاب إسلاميّ، على الرغم من أن الإسلام ضَمِنَ حرية الفرد من سلطان العلماء حيث لا سلطان “كنسي” في الإسلام، وحرّره من سُلطان الأمراء حيث لا حُكم بموجب حقّ إلهي مقدّس. ومازال هذا الطيف يعمل على فرض مشروعه عبر منظماته التي تعمل على التمكين والدعم النفسي، وعبر ممثليه في مؤسسات المعارضة التي تعمل على فرضه عبر المضامين الدستوريّة التي يتم العمل عليها من خلال مفاوضات اللجنة الدستوريّة، وهي العلمانيّة، والاتفاقيات والمعاهدات الدوليّة مصدر للتشريع، والحريّة الفرديّة والتحرّر من “قيود” الدولة والمجتمع والقانون عبر تحييدها، الأمر الذي يتناقض مع ركن الانتماء الوطني.
– التقسيم أو الفيدرالية السياسية على أسس مناطقية أو عرقية أو طائفية، وتعتبر هدماً لأركان الدولة الثلاث “النظام السياسي” الذي لا يعني السلطة الحاكمة “والوطن والشعب” حيث تؤدي إلى تقسيم الجغرافيا إلى كنتونات، والشعب إلى فِرق ومجموعات وإثنيات وأعراق، وبالتالي غلبة الهويات الفرعيّة على الهويّة الوطنية وسيادة روح الانفصال والاستقلال على حساب الروح الوطنيّة وسمو المصالح الفرعيّة على المصلحة الوطنيّة الجامعة الأمر الذي ينقض ركنا الولاء والوفاء للوطن والشعب.
إن الاستقواء بالأجنبي أو التوسّل بالقوة أو السلطة سواء كانت داخلية أو خارجيّة أو حتى الأمميّة لفرض قيم ومبادئ تحمل في طيّاته شروط إذعان على الشعب من قبل أيّاً كان على أي فئة أو طائفة أو جماعة أو مكوِّن من مكونات الشعب السوري هو خيانة عظمى تُسقط عن صاحبها هويّته الوطنيّة.
إن الازمات الداخليّة مهما عظُمت لا تبرّر التخلّي عن الهويّة الوطنيّة والتفريط بها، وأنه من كمال الوطنيّة عند وقوع الفتن وحلول المِحن بالوطن مواجهتها بقلب واحد ويدٍ واحدة والتمسُّك بالانتماء والولاء والوفاء لهذا الوطن ولشعبه ولحضارته وتاريخه، والحفاظ على تنوعه العرقي والاثني والديني، ووحدة أراضيه وعلى تقاليده وعاداته الأصيلة وعقائده المختلفة، وتعزيز الهويّة الوطنيّة في نفوس أبناءه، وغرس بذور الانفتاح على الآخر وتقبّل الاختلاف في عقولهم، على أنه من سنن الله في كونه، وأن نوقِن جميعاً بأن ما يجمعنا في هذا البلد أكثر مما يًفرِّقنا، وأن سبيلنا للخلاص هو باقتلاع جذور هذا النظام من بلادنا، وإن إعمار البلد لا يقوم بالبناء على ما خرّبه النظام الطائفي، وما أنتجته الحرب من تناقضات وهواجس، وإنّما طريقنا إلى ذلك هو إعمار الإنسان قبل البُنيان من خلال إعادة الثقة بيننا بدل تكريس الخوف والتوجّس، وزرع الطمأنينة والتقارب بدل التنافر، فتاريخنا واحد مستقبلنا واحد، وكلنا شركاء في بناء حضارة هذا البلد ولا تكتمل هويتنا الوطنيّة بإقصاء أي طيف من أطيافه أو الانتقاص من حقوقه. إن بناء الحضارة الإنسانيّة لا يقوم إلا بالحوار على قاعدة التمسّك بالأصالة والتمايز والانفتاح على التجديد بما يحول دون الدخول في صراعات مُدمِّرة للبشريّة، وإنَّ تكريس العصبيّات العرقية والدينيّة والطائفيّة والمناطقيّة في سوريّة هو بوابة الصراع الصفري “حرب أهلية” الذي لا يأتي إلّا بالشرِّ والخراب.