نظام الملالي في قلب مثلث برمودا بحصار محلي وإقليمي ودولي
يبدو أنّ نظام الملالي شارف على الوصول لنهايته الحتمية، نتيجة طبيعية لعوامل ذاتية وموضوعية يحملها المشروع الذي أرسى دعائمه رجال الدين الشيعة، وكان مهندسه آية الله الخميني.
مشروع ديني مسلّح عابر للحدود، معاد للدولة الوطنية، يعيش في التاريخ، انتقامي الطابع ولا يعرف طريق للمستقبل.
يعتمد في التوسع على الإرهاب ويسميه جهاداً، تمكّن من إنشاء دولة مارقة متخاصمة مع الجوار والعالم كله، لم يستطع بلورة هوية وطنية إيرانية، تخلق شعباً مؤلفاً من خليط متعدد الإثنيات والقوميات والأعراق.
لا يمكن فرض انتماء مذهبي معين على سكان يؤمنون بغير مذهب، بل ممارسة الاضطهاد لمخالفيه من أن يبني شعباً (بكل ما في الكلمة من معنى) بل ستتألف الدولة من مجتمعات أهلية تحكمها قبضة أمنية بالغة القسوة ستنفجر حتماً عندما تخفّ شدة تلك القبضة.
وفي الحقيقة وبعد 43 عاماً من انتصار الثورة الخمينية، أكثر من دفع الأثمان هم الفرس الإيرانيون وشيعة عموم المنطقة نظراً للحالة المأساوية التي وصل لها سكان إيران والدول التي أخضعتها لنفوذها، وحال الهلال الخصيب وبلاد الشام واضحة لا تحتاج إلى شرح أو توضيح.
والدول المارقة حسب التصنيف الدولي هي من ترعى الإرهاب وتستخدمه في سياساتها، وتحكم رغماً عن شعوبها، بل تعتبر معادية لهم، ولا تعترف بالسيادة الوطنية للدول وتسعى لامتلاك أسلحة دمار شامل لتهدد به جيرانها أو العالم أجمع، وكل تلك الصفات مجتمعة في إيران التي يحكمها نظام الملالي.
وجد نظام الملالي نفسه محاصراً من ثلاث جهات، وكأنه في قلب مثلث برمودا الذي سيبتلعه.
1- حصار داخلي:
أهم حصار يواجهه النظام الإيراني من شعبه، حيث دخلت الانتفاضة الإيرانية شهرها الثالث، ويبدو أنّها تسير في طريقها إلى نهايته وآخذة بالتوسع نوعاً وكمّاً وأفقياً وعمودياً.
بحيث كثرت الانتقادات للنظام، وزاد دعم الاحتجاجات الشخصيات العامة الإيرانية من مثقفين وفنانين ورياضيين إلى أبناء أو أقرباء الصفوة المحسوبة على النظام، كرفض حفيد الخميني إصدار بيان يدين الاحتجاجات ويدعم النظام، وتم أيضاً اعتقال فائزة رفسنجاني ابنة هاشمي رفسنجاني صانع الرؤساء في إيران، وهو الذي كان له الدور الأكبر في وصول المرشد الحالي لمنصبه، بالإضافة إلى انتقاد الممارسات القمعية للنظام من قبل شقيقة المرشد وابنتها، وهما رهن الاعتقال حالياً.
إن دعم المجتمع الدولي للاحتجاجات الإيرانية هو أكثر ما يقلق طهران، خاصة في ظل عدم وجود رؤية موحّدة على مستوى القيادة الإيرانية لطريقة التعامل مع الانتفاضة، ولجوء السلطات للتنازلات المتأخرة كغيرها من الأنظمة الاستبدادية التي تقدم التنازل بعد فوات الأوان وحين لا تجدي نفعاً.
وقد علّمنا التاريخ أنّ التنازلات المقدمة من السلطات تزيد من اشتعال الثورات الشعبية ولا تخمدها.
إن حلّ شرطة الأخلاق واستعداد البرلمان الإيراني لمناقشة قضية الحجاب برمّتها ومناقشة إلزاميته، لم تلق صدى عند الجمهور المنتفض لأن الهدف يبدو هو إسقاط النظام وليس الحصول على بعض الإصلاحات.
كما أنّ تدهور صحة المرشد واحتمال موته بأية لحظة دون حسم مسألة خلافته بين ابنه مجتبى والرئيس الحالي إبراهيم رئيسي وتصارع أجنحة السلطة وربما انشقاقها على الفوز بالمنصب، وقد يؤدي الإعلان عن وفاة المرشد إلى تدفّق عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع مبتهجين بموت الديكتاتور، وهذا التطور إن حدث مفتوح النتائج والاحتمالات ويضع النظام الإيراني على كف عفريت.
بحيث يبدو مظهر احتفال الجمهور الإيراني بخسارة منتخب بلاده بمونديال كأس العالم أمام الولايات المتحدة تفصيلاً صغيراً باحتفالات الجمهور بموت الديكتاتور.
2- حصار إقليمي:
يعيش نظام الملالي هذا الحصار أيضا حيث لم يتمكّن من إنجاز أي اختراق، بل ساءه كثيراً حدوث المصالحات الإقليمية في جواره من إنهاء للأزمة الخليجية مع قطر والمصالحات بين قطر ومصر بالإضافة الى المصالحات التركية مع قطبي الخليج العربي وقريباً قد تتوّج بمصالحة مع مصر.
ست جولات من محادثات أمنية مع الرياض فشلت ولم يتم التوصل إلى أي لقاء سياسي، وانضم لتعليق المحادثات السعودية مع إيران كلٌ من المملكة الأردنية الهاشمية ومصر، بحيث لا يبدو أي أفق أمام نظام الملالي من التسلل إلى الإقليم عبر دعاويه المكرورة والممجوحة بتحسين العلاقات مع الجوار العربي، وإقامة نظام دفاع إقليمي، والغاية إخراج القوات الأمريكية من المنطقة.
وقد شهدت منطقة الخليج العربي ثلاث زيارات هامة لقادة غربيين (وهم الموجودون ضمن اتفاق 5+1) حيث تقاطر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والمستشار الألماني شولتز والرئيس الفرنسي ماكرون إدراكاً لأهمية المنطقة العربية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقد خاب ظنّ أو رغبة القيادة الإيرانية بتفاقم خلاف الإدارة الأمريكية الديمقراطية مع السعودية وحدث العكس أن أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى زيادة بروز دور المملكة العربية السعودية والخليج العربي عموماً ككتلة استراتيجية مرجّحة في الصراع الدولي الجاري الآن بين روسيا والغرب، ولعب الدور الأقرب للحيادية لدول المنطقة بعدم إغضاب الروس وهرولة الرئيس بايدن لإصلاح الرتق في العلاقات مع دول المنطقة (ويستطيع بالطبع الخيّاط الأمريكي رتق الرقع في العلاقات لأنها غير جوهرية).
كان مؤتمر جدّة في منتصف تمّوز الماضي بين الرئيس الامريكي وزعماء تسعة دول عربية هو رسالة هامة لعودة أمريكية للمنطقة كسابق عهدها وتفعيل ما يعرف بالسياسة الأمريكية بعقيدة كارتر، وهي أنّ الخليج العربي خطّ أحمر أمريكي بمعنى لا يسمح لأحد بالاقتراب منه، وإن كان الأمريكان يستهدفون برسالة مؤتمر جدّة وضعها في صندوق بريد الرئيس الروسي إلاّ أن العرب كانوا يستهدفون بالدرجة الأولى وضعها في صندوق بريد المرشد الإيراني.
كما أنّ القمم الصينية مع دول المنطقة الجارية في شهر كانون الأول الحالي وتوقيع اتفاقية الشراكة السعودية – الصينية الشاملة مع غيرها من الاتفاقيات الصينية مع دول المنطقة تمثل خيبة أمل إيرانية كبرى بإنجاز تحالف إيراني – صيني تستخدمه إيران ضد دول المنطقة، وكانت قد سعت إليه سابقاً وقبل العرب، ووقّعت اتفاق شراكة استراتيجي مدته 25 عاماً يتضمن تعاوناً اقتصادياً بقيمة تفوق الـ 400 مليار دولار، ويتضمن بنوداً عسكرية وأمنية، والمتابع لأوضاع المنطقة سيجد أن الصينيين لم يفعّلوا الاتفاقية مع إيران حتى الآن حرصاً على علاقاتهم القوية في المنطقة مع العرب والإسرائيليين، وقد يكون أيضاً عدم الرغبة بإغضاب الأوربيين والأمريكان.
ولا يمكن اعتبار فشل إيران المباشر بإحداث اختراق إقليمي بعلاقاتها وانعقاد قمتين لدول المنطقة مع الولايات المتحدة والصين إلا حصاراً إقليمياً محكماً حولها.
3- حصار دولي
لم تكن مقولة الخميني عند وصوله للسلطة بأنّ إيران لا شرقية ولا غربية تعني قطيعتها للغرب والشرق كما يُفهم من ظاهرها، بل إنّها ستحتفظ بعلاقات مع الشرق والغرب معا ولن تنحاز لأحد على حساب الآخر، وفي تاريخ العلاقات الإيرانية مع الغرب منذ ذلك الوقت كانت في الجوهر دافئة وعميقة نوعاً ما (وأقصد هنا أوربة الغربية وكندا واليابان وكوريا الجنوبية) إلى جانب الولايات المتحدة التي لم تكن منزعجة من دفء تلك العلاقات وتعمل على توظيفها لمصالحها، حيث كانت الضرورات الإيرانية لصعود المشروع الإيراني واستمراره تقتضي أيديولوجيا شعاراتية تردّد يومياً وهي العداء لأمريكا وإسرائيل للتغطية أو للحشد لمآرب مشروعها الحقيقي بالسيطرة على الجوار العربي.
لا غنى لإيران عن التكنولوجيا الغربية والتبادلات التجارية معها، ولم ينظر الغرب يوماً (والولايات المتحدة بالذات) إلى إيران بأنّها عدو عضوي أو منافس، بل كان التخادم يحقق بعض غايات الطرفين.
انسحب الرئيس الأمريكي السابق من المعاهدة النووية الدولية مع إيران عام 2018، ولم تنسحب الدول الأوربية الثلاث منها ولازالت ملتزمة بها ولم تنضم للعقوبات الأمريكية القصوى التي خلّفها انسحاب ترامب.
بل بذلت الدول الأوربية قصارى جهدها للعب دور الوسيط بين واشنطن وطهران، لكن القطيعة الغربية الكاملة حدثت مع إيران بفضل ثلاثة عوامل جرت في هذا العام.
أولها تمادي إيران بطلباتها لاستغلال رغبة الإدارة الديمقراطية بالوصول لاتفاق نووي معها، وبالتالي ساهمت تلك الطلبات التعجيزية بعدم توقيع الاتفاق قبل حدوث الغزو الروسي لأوكرانيا.
محاولة الإيرانيين أخذ موقف أقرب للحياد في البداية من الحرب في أوكرانيا أملاً بابتزاز الخصمين فيما بعد، إلاّ أنّ الأحداث سارت بمنحى آخر عند ظهور الدور العسكري الإيراني في الحرب الروسية على الاتحاد الأوربي وقيام طائرات إيرانية (وتعمّد الروس إظهار ذلك) مسيّرة بقصف أهداف مدنية في أوكرانيا، وأظن أنّ الانخراط الإيراني في تلك الحرب ضد أوربا هي القشة التي قصمت ظهر البعير في استبعاد فرص الحوار أو الاتفاق مع النظام الإيراني الحالي.
ثالثها وصول الانتفاضة الإيرانية إلى تلك الدرجة التي تهدد بإضعاف النظام أو ربما انهياره واستعمال العنف المفرط تجاه الشعب الإيراني وانحياز أوربا الواضح لدعم تلك الاحتجاجات، ووصف الرئيس الفرنسي الاحتجاجات بالثورة، تجسيد لحالة الطلاق البائن بينونة كبرى بين الغرب الجماعي ونظام الملالي.
وأي نظام حكم يقع في قلب مثلث محاصر بأضلاع ثلاثة داخلية وإقليمية ودولية، لابدّ له من أن يغرق خاصة أنّ هذا المثلث برمودي الشكل والبنية.
نظام الملالي القائم على فرض هويته على أعراق إيران بالقوة والعنف ، ربما يحمي بهذا الأسلوب وجوده لفترة من تيارات مثلث سقوطه ، كما اعتمد ذلك في سوريا وغيرها ، لكنه لن يمنع سقوطه عاجلاً أم آجلاً .