نشر غسيل
ما بين الصّحوة واليقظة نهنهة حلم. وضعت حفيدتي يدها على جبهتي.. في عينيكِ يبرق سؤال، هاتي…
– معلمنا اليوم قال: إن العربية أغنى اللغات.
– نعم، هي كذلك، لأنّها مطواعة التّعبير، جميلة الدلالة، غنيّة بالمفردات بما فيها من ترادف وأضداد، كالكرّ والفرّ، والإقبال والإدبار؛ لكنّها تفتقر إلى كلمة.
– ماهي؟
– هزيمة، فهنيئاً لأبنائها.
– وقال: كنّا سادة العالم…
– نعم، حكمنا شرقاً وغرباً، حكمنا الأندلس ثمانية قرون، وعلى يد أبي عبد الله الصغير، خرجنا وتركنا للأسبان ما يفتخرون به حتّى اليوم، وما زالت الأندلس على مرمى حجر وتنهيدة على ماض غابر…
– وبعدها؟
– تعلّمنا كيف ندوّر الحروف، وكيف نولّد معانيها. احتلّنا العثمانيون أربعة قرون، قلنا: أخوة في الدين.. فتح وبركة…
– وماذا …؟
– وضع سايكس وبيكو حدوداً أعلنّا رفضها كلاماً، واستنكرناها هتافات ردحاً… ثم تلاشت في الهواء، وصارت أمراً واقعاً نحافظ عليه، وندافع عنه…
– أليس غريباً؟
– الأغرب – يا بنتي – زُرعَ كيان لا يُعرَف أصلُه بين الحنايا فندّدنا… قلنا: تلك نكبة، ولكل جواد كبوة.. ضاعت فلسطين نصفها، والأيام حبلى…
– وماذا فعلتم؟ هل صمتم؟
– لا، لنزيل الغصة من الحناجر، ونمحو العار ونقتلع الحدود صحونا على خسارة سيناء، والضّفة الشّرقيّة، والجولان…
– أيعقل؟
– قلنا نكسة، وحمدنا الله، انتصرنا فلم تسقط الأنظمة الوطنية، ولم يحقق الكيان هدفه…
– وماذا بعد؟
– انتعش الحلم بالتّحرير، فتولّد جيب غرب القناة وآزرته قرى اِقْتُطِعَت من الجولان.. المهم انتصرنا.. تحرّرت الإرادة العربيّة…، ولم يحقق الكيان هدفه…
– وأيضاً…؟
– تدمّرت البنية التّحتيّة في لبنان قبل ثماني عشرة سنة، ونزف الدم فزغردت الحناجر بالنّصر المؤزر، وتقاسمت فتح وحماس السّلطة فحمدنا الله على خنق رشيم بذرة الدولة… ولم يحقق الكيان هدفه…
– وبعد…؟
– تفشّى كورونا الحميّة، وأثرنا عش الدبابير فراحت تتكوّم البيوت فوق رؤوس سكانها في غزّة، ونزف الدم غزيراً، وبدأ اجتياح جنوب لبنان، ونحن نتابع أعمدة الدخان تتصاعد في الجو، ومازلنا ندين انتهاكات العدو لحقوق الإنسان، ونطالب بوقف الحرب، في جو من صمت رهيب. الحرب ليست حربنا وإن كانت على أرضنا، لعلهم ينهون بعضهم.
– ولم تعترفوا بـالـ…؟
– قلتُ لكِ في لغتنا نعرف النصر…، صار الكيان دولة كبرى تذبح… وتجتاح ما تريد… دونما رادع، والعالم العاهر يتفرج على عرينا، ولم نشعر بعارنا…
– وماذا كنتم تعملون…؟
– كنا نرفع شعارات الوحدة تحت أعلام مختلفة… نستورد مقصات حادة… نبني أقبية لا تزورها الشمس… ونتحدّى…
نكزني صوت انفجار هزّ أركان المنزل.. صحوت وفي أذني ترنّ كلمات: ما زلنا نتمسّك بمعسول الكلام عن حقوق الإنسان، ونطالب الأمم المتحدة بتطبيق القرارات الدوليّة…
أطبقت جفنيّ رأيت جدنا “يعرب” الأكبر ينهض من جدثه مكفهرّاً.. عابس الوجه.. وبقامته الممشوقة يقف كرمح مركوز، يجلس على كتفيه طفلين، ويفرد يديه جناحين.. يطير .. يطير.. يحلّق.. يحلّق.. يحطّ على قمة جبل.. يمسح على شعر الطفلين.. يشير بيده.. يقول: هذه الجبال والسّهول والصّحاري والغابات كلّها ملككم، حافظوا عليها.. والعنوا المتخاذلين من آبائكم…
تمنّيت أن أبقى…!!.