fbpx

من مليون مشكلة إلى صفر مشاكل.. مقدمة لدور تركي قادم

0 518

شاءت ضرورات الجغرافية أن تقع تركيا بين ثلاث قارات، فهي تطل على البحرين الأسود والمتوسط وتجاور البلقان والقوقاز..

الناظر لتركيا من الغرب يراها شرقية…والذي ينظر لها من الشرق يراها غربية.

لا تقل تعقيدات التاريخ عن مازق الوضع الجغرافي فهي في قلب شرق أوسط، عانى ويعاني من صراعات بعضها انتهى وبعضها لا ينتهي.. وشارك العثمانيون بنجاحاتهم أو إخفاقاتهم بجزء من تلك التعقيدات والتي لازال بعضها يلقي بظلاله على السياسة التركية الحالية والمستقبلية.

وسياسة صفر مشاكل ليست من اختراع السيد أحمد داوود أوغلو منظر حزب العدالة في عام 2009 بل هي تحديث لمقولة مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك بمقولته الشهيرة سلام في الوطن وسلام في العالم.

حاول كمال أتاتورك وخلفاؤه من بعده، ربط تركيا بالغرب وقطع صلتها بالشرق، ولكن الانعطافة حصلت مع وصول نجم الدين أربكان إلى رئاسة الوزراء ومن ثم توجهات حكومة الرئيس تورغوت أوزال ببناء علاقات اقتصادية مع الجوار الحيوي الجنوبي والشرقي لتركيا، وازداد ذلك التوجه بوصول حزب العدالة والتنمية للسلطة وقيادته لحركة نهضوية اقتصادية شاملة فاقمت الحاجة لفتح أسواق جديدة والتصالح مع الجيران بعد أن قطعت تركيا شوطاً مهماً بالتصالح مع هويتها الإسلامية بعد علمانية أتاتورك القاسية.

ولا شك أن التمنع الغربي عن قبول تركيا كأحد أعضاء الاتحاد الأوربي بسبب التركيبة الدينية التركية ساهم بإعادة اهتمام تركيا بالشرق الأوسط.

كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949، وأول دولة إسلامية عضو في الناتو تلقي بظلالها على سياسات تركيا في المنطقة.

لكن تمكنت السياسة التركية من بناء علاقات جيدة بزمن قياسي مع الدول العربية ولعب دور مهم بذلك تصادمها مع الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني والتي كانت ذروتها حادثة السفينة مرمرة وتوثقت بعدها علاقات تركيا كثيراً بحركة حماس الفلسطينية.

انحازت تركيا لثورات الربيع العربي، التي أفضت بالنهاية لسيطرة أحزاب دينية على السلطة فيها.

وبسبب سيطرة قيادة متدينة إسلامية على سياسات حزب العدالة والتنمية التركي العلماني واعتبارها من قبل بعضهم كحزب إسلامي عالمي يطمح لتصدير نموذجه العثماني وإعادة التاريخ إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، خاصة أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، لم تكن ترى مانعاً أن يكون النموذج التركي الإسلامي صاحب الاستقرار السياسي الداخلي والمزدهر اقتصادياً، الذي يتمتع بهامش كبير من الحرية والديمقراطية، يمكن اعتباره كنموذج للدول العربية والإسلامية بعيداً عن الأفكار المتطرفة للجماعات الجهادية أو نموذج ولاية الفقيه الشيعية.

حدث الافتراق التركي مع الخليج العربي (باستثناء قطر) ومع مصر وبالتأكيد مع النظام السوري إثر اندلاع الثورة السورية ووقوف تركيا إلى جانب الشعب السوري، وكانت النتائج كارثية لكلا الطرفين العرب والأتراك.

شهد الشرق الأوسط توقيع الاتفاق النووي بين المجموعة السداسية الدولية وإيران، وتحول الهلال الايراني الشيعي إلى بدر مظلم يطوق المنطقة عبر جناح شمالي يمتد للبحر الأبيض المتوسط، عبر العراق وسورية ولبنان، وجناح جنوبي يلف اليمن والبحر الأحمر وباب المندب ويلقي بظلاله على مصر والسودان وقناة السويس، إضافة لإشراف إيران على مضيق هرمز في الخليج العربي.

وقد تمكنت المملكة العربية السعودية من استعادة البحرين من الفك المفترس الإيراني عبر عملية درع الجزيرة وبدء عاصفة الحزم في اليمن ربيع 2015، في محاولة منها لكبح التمدد الإيراني بعد أن علقت آمالاً واهية على الجيش الروسي للحد من النفوذ الإيراني في سورية.

طبعاً، ولكي يزداد الجرح عمقاً، حدث الخلاف الخليجي المصري مع قطر ووقفت تركيا إلى جانب قطر عبر وجود عسكري مباشر في الدوحة.

لقد كان هذا الانقسام الذي وصل لحد الحرب بدون إطلاق النار، هو ما تتمناه إيران والذي سيسهم أكثر في إحكام تمدد هلالها عبر التهام مناطق أخرى.

فشلت ثورات الربيع العربي وتلاشى بريق حركات الإسلام السياسي بل كان الانقلاب عليها في تونس وسقوطها شعبياً بالمغرب إيذاناً بانتهاء مرحلة وبداية مرحلة جديدة.

التقطت القيادة التركية اللحظة وكانت إشارات الغزل السياسي الصادرة عنها تقابل بتمنع عربي على استحياء ولكنهم راغبون بإعادة العلاقات لطبيعتها.

ولأن البواخر الكبيرة لا تتمكن من الدوران بسرعة وهي بمكانها كان لابد للانعطافة التركية الكبيرة أن تأخذ مكانها وزمانها تمهيداً للدوران.

تزايدت المؤشرات على كسر الجليد العربي – التركي بتتويجها بزيارة الرئيس التركي أواخر شهر رمضان إلى المملكة العربية السعودية ولقائه للملك وولي العهد والحفاوة البالغة التي تم استقباله بها بل حرصت القيادة السعودية على إعطاء رقم غرفة إقامة الرئيس التركي بالرقم 1453 تاريخ فتح استنطبول، وهي إشارة ترحيب بسليل السلطان محمد الفاتح في الحجاز.

وكان قد سبق تلك الزيارة تبادل الزيارات بين أنقرة وأبو ظبي، واستقبال حميمي للرئيس الإسرائيلي في أنقرة.

لا يمكن المرور على تصريح الرئيس التركي في أبو ظبي بأن أمن الخليج من أمن تركيا، لا يمكن إلا الوقوف عنده ووضعه بسياقه الاستراتيجي لمنطقة تتعرض لاستهداف ميليشيات الحرس الثوري الإيراني المتعددة والمتكررة من اليمن والعراق.

ولا يمكن لصانع القرار التركي والعربي تجاهل رغبة الإدارة الأمريكية بإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، والنية الأمريكية المعلنة لتخفيف وجودها في المنطقة وتراجع اهتمامها بها، وتركيز جهودها في مواجهة الصين وروسيا.

وبما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، كذلك الجيوستراتيجيا لا تقبل ذلك، فلابد من ملء الفراغ من دول المنطقة الذي سيخلفه تخفيف الوجود الأمريكي بالمنطقة.

ويعلم القاصي والداني أن من يهدد أمن المنطقة هو طرف واحد موجود على الضفة الشرقية للخليج العربي وتتواجد ميليشياته في أربع عواصم عربية + غزة.

كانت الحركة على مستوى دول الإقليم واضحة في هذا المجال، والغاية إنشاء منصة أمنية أو منظمة إقليمية للتعاون الأمني والعسكري لمواجهة التنمر الإيراني، بدأت بشرم الشيخ والنقب والعقبة وترتبط بها التحركات التركية ارتباطاً مباشراً.

ملامح الدور التركي بعد الحرب الروسية على أوكرانيا

  1. قبل الحرب كانت الولايات المتحدة قد أوقفت دعمها لخط الغاز الإسرائيلي البحري إلى اليونان، وامتنعت عن تمويله، وتدور الأحاديث الآن عن استبداله بخط يصل إلى الأراضي التركية، ليكون ميناء جيهان التركي على المتوسط عقدة توزيع الغاز القادم من مناطق مختلفة إلى أوربة ومنها، إضافة للخط الإسرائيلي البحري، خط غاز من أذربيجان، وخط غاز من إقليم كردستان العراق، إضافة لمشاريع على المدى المتوسط تتعلق بإيصال خط الغاز العربي أو القطري إلى نفس الميناء، وذلك لمحاصرة الغاز الروسي ومنع تصديره لأوربة.
  2. إن الموقف التركي من الغزو الروسي لأوكرانيا كان شديد الوضوح لمن أراد رؤيته على حقيقته، فلم يطل الزمن الذي فعلت تركيا تطبيقها لاتفاقية مونترو وإغلاق المضائق التركية أمام القطع الحربية الروسية ذهاباً وإياباً، وهو ما يشكل حصاراً بحرياً في أولى خطواته من قبل الناتو عبر تركيا لجعل البحر الأسود بحيرة بالنسبة لروسيا، خاصة أن الأسطول الروسي لم يتمكن من تعويض غرق الطراد موسكوفا بطراد مشابه موجود في قاعدة طرطوس البحرية.
  3. لا يمكن النظر إلى القرار التركي بحظر الطيران الروسي المدني (الذي يستعمل لأغراض عسكرية) والطيران الحربي إلا خطوة ستتلوها خطوات، وهي ليست مرتبطة باتفاقية مونترو وتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، بل كخطوة تخص السياسة التي ممكن اتباعها حيال سورية مستقبلاً، ولا يخفى على أحد التقارب التركي مع أمريكا والغرب عموماً وما يمكن توقعه من احتمال تزايد الدور التركي مستقبلاً على الساحة السورية.
  4. إن الحرب الرمادية التي تخوضها تركيا مع إيران عبر المعارك الجارية شمال العراق بين الـ PKK (أحد أذرع الحرس الثوري الإيراني) والجيش التركي، وحرب سنجار التي يخوضها الجيش العراقي في إقليم سنجار ضد نفس الحزب بدعم ومساندة تركية من قاعدة بعشيقة القريبة، التي تهدف لإبعاد الحزب عن الحدود السورية.
  5. أدركت أوربة أن الرهان على الاقتصاد ليس الخيار الأسلم ولابد من أن يكون خيارها الجيوسياسي متقدماً على خيارها الاقتصادي أو (ملازماً له على الأقل) وخاصة إقليم الشرق الأوسط، وذلك لاعتبارات أمنية تتعلق بمنابع اللاجئين القادمين إليها أو الإرهاب الناجم عن الصراعات الدائرة فيه، أو لاعتماده كمزود رئيسي للطاقة الآمنة. ولذلك لابد من دعم تشكيل منصة أمن وتعاون إقليمية تكون تركيا ضلعاً رئيسياً فيها، في مواجهة عوامل عدم الاستقرار التي يتسبب بها المشروع الإيراني في المنطقة.
  6. إن أي محاولة لفرط عقد التحالف الإيراني – الروسي في الشرق الأوسط سيكون من سورية عبر إخراج أو خروج أحد محوري الشر منها، ولتركيا دور محوري وأساسي بذلك ولن يكون بعيداً عن ذلك الحظر الجوي والبحري الذي فرضته تركيا مؤخراً على القوات الروسية في سورية.
  7. يعتقد بعضهم أن غاية المصالحات التركية مع الإمارات والمملكة العربية السعودية، يطغى عليها الجانب الاقتصادي، نظراً لما تعانيه الليرة والاقتصاد التركي من مصاعب، ورغم أهمية هذا الجانب إلا أنه ليس السبب الأول أو الثاني للتقارب، فعلى سبيل المثال يصنف الاقتصادان التركي والسعودي من ضمن أكبر عشرين اقتصاد بالعالم، وحجم التجارة التركية مع السعودية لم تصل في أحسن أحوالها إلى أكثر من 3 مليار دولار سنويا وهو يشكل أقل من 1% من حجم التجارة الخارجية لتركيا.

لذلك أرى أن الثقل الاستراتيجي التركي في منطقة الشرق الأوسط يشكل ضرورة وليس خياراً لكل الأطراف، لمواجهة تحديات المشروع الإيراني المهدد لاستقرار الإقليم كله.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني