fbpx

من الدير إلى الشام

1 986

في عام 1992

سافرت نيابة عن والدي رحمه الله إلى مدينة دمشق في شأن عائلي كانت رحلتي الأولى خارج نطاق عالمي الذي فرضته الجغرافيا علينا حيث أسكن أقصى الشرق السوري والذي يبدو أيضاً خارج إهتمامات الجغرافيا السياسية للسلطة .

كنت قد نجحت للتو بالصف التاسع وهو مايعتبر إنجازاً ذلك الوقت خاصة أنني قد كنت من الأوائل على مستوى المحافظة ولذلك ربما كان والدي يريد مكافأتي على ذلك بإرسالي إلى دمشق العاصمة .

بذلك العام كنت قد عبرت إختبارين الأول هوالشهادة الإعدادية والآخر هو اختبار المراهقة (الرجولة) التحول من الطفولة إلى الرجولة دون المرور بمرحلة الشباب هكذا هي أعراف (القبيلة) التي فرضت نفسها ، ففي كل مرة تحتاج فيها لمساندة من أي نوع تسمع الكلمة ذاتها أنت أصبحت رجلاً بمجرد أن تظهر مجموعة من الشعرات الصغيرة السوداء والناعمة أعلى شفتك العليا كذلك فعليك الانتقال إلى الحكمة والنضج بمجرد أن تغزو بعض الشعرات البيض مفرقك ،  لون الشعر هو مايحدد ميزاننا النفسي ومخزوننا الثقافي والاجتماعي .

كانت سوريا حينها قد دخلت إنفتاحاً إقتصادياً سببه  تراجع الاقتصاد )الوطني( نتيجة السياسات التي قام بها النظام والتي تسببت بعزلة سياسية ومقاطعة اقتصادية وحصار يذكره أبناء ذلك الجيل جيداً .

أحد اشكال هذا الانفتاح كان التحول في شكل وسائل النقل خاصة (الباصات) وتحول إسمها كشكل من التحديث إلى بولمنات  تقاسمت السيطرة على  قطاع النقل شركات خاصة لأشخاص قريبين من السلطة والحكومة نفسها ،  لكن يبدو ان التطوير  كان بالعناوين فقط فقد حملت اسماء شركات القطاع العام اسماء وكانها اقتطعت من مانشيتات جريدة الثورة

كالاتحاد العربي للنقل البري  فيما مالت شركات القطاع الخاص لاسماء اكثر رومنسية كالجميل والتوفيق والشلال

هذا من حيث الاسماء لكن لم يتغير شيء من حيث المضمون  فبحكم انني اسافر للمرة الاولى فقد اعتبرت أن يطلب مني المرافق بعد نزولنا في استراحة تدمر وهو أمر روتيني تقوم به جميع الرحلات القادمة من ديرالزور أن اترك مقعدي ( الوثير) لاجلس على كرسي صغير في ممر الباص ويجلس مكاني شخص صعد للتو من استراحة تدمر بالرغم من إمتلاء المقاعد أمراً طبيعيا ً كان الفساد قد وصل للسائق ومرافقه الذين كانوا يقبضوا عن هؤلاء من صاحب الاستراحة .

للاستراحات في تدمر نكهة أخرى فهي تشبه رحلة  شبه اجبارية بكل مافيها من نوعية الطعام او المشتريات وكان لكل شركة استراحتها وخيارها الذي تفرضه على المسافر فيما كانت الميزات تقدم للسائق والمرافق من وجبة مجانية وإبريق شاي وفناجين قهوة كنوع من الشكر على مرورهم وكلما زاد عدد الركاب زادت وجبة السائق واصبحت أكثر غنى (وجبة دسمة ) وهكذا وصلت دمشق على كرسي صغير في ممر باص حديث .

لم أكن أحمل أي تصور مسبق عن دمشق سوى مارأيته في مسلسل كان يعرض حديثاً على القناة الأولى والتي كانت لوقت ليس بالبعيد القناة الوحيدة والرسمية لبلاد تمتد من أقصى فتوحات خالد بن الوليد وغزوات تيمور لنك ومن قبلها آلاف السنين إلى أقصى مملكة زيمري ليم ملك ماري ، كان المسلسل والذي حقق نسبة مشاهدات عالية حيث كانت العجائز و(الشياب) جمع يطلق على كبار السن في لغتنا المحكية قد أجلن موعد نومهن المبكر لحضور مسلسل أيام شامية حيث حارات الشام القديمة والياسمين ورجال يحملون الخناجر ويتجولون بالطرقات ويهرعون عند أول صوت (لخنائة) بين رجلين لاتلبث أن تنتهي بتبويس الشوارب بحضور ( العكيد) كبير الحارة ،  كنت أتوقع أن أرى ذلك المشهد في أحد احياء دمشق القديمة التي سمعت عنها كثيراً من أبناء عمومتي الذين يقطنون دمشق ، كان حديثهم مليئاً بمخيال الطفولة ومحشو بكثير من المغامرات المفتعلة ، لم يكن هذا تصوري فقط فكنت أنا أيضاً القادم من بلاد تتكلم لهجة مختلفة يقطن افرادها (بيوت الشعر) الخيام

ويركبون الخيول ومهنتهم الأساسية الرعي ولايرتدون البنطال ولايعرفون السيارات ، هكذا أوحى الإعلام الرسمي للسلطة حيث عمل على تنميط كل زاوية من ذلك الوطن المتعب بنمط معين لم يتعب رجاله المخلصين أنفسهم بالبحث قليلاً فالصورة النمطية اسهل بكثير من البحث عن المشتركات والمتشابهات كما أن عدم المعرفة أفضل بكثير من معرفة تبعث على البحث هكذا كان يرى صناع القرار .

بعد أعوام وبعد قفزة نوعية في الإعلام وعندما أصبح لدينا قناتين تلفزيونيتين أحدهما تبدأ إرسالها مع عودة الأب من العمل باحثاً عن قيلولة يريح بها جسمه ليدخل صراعاً مع أبناءه المنتظرين لصياح الديك إيذاناً ببدء فترة  برامج الأطفال والتي كان يسبقها وبشكل يومي برنامج عن طلائع البعث أو شبيبة الثورة او أرضنا الخضراء.

الانتظار كان السمة الغالبة لمتابعي قنوات التلفاز الوطني

فبعد الموعد المقدس لنشرة الأخبار والتي كان الوطن يَزبُط إيقاعه عليها ليسمع صوت مهران يوسف الاسم الأشهر بين مذيعي الاخبار آنذاك ليعدد مناقب القائد وزيارات القائد وكم مرة إبتسم القائد كان المصطلح الأكثر شيوعاً حينها (سلام الشجعان ) وهو مصطلح صبغ كل شيء بصبغته كما هي العادة فاصبحت برامج الأطفال تتحدث عن الشجعان الثلاثة

و(فارس الفتى الشجاع) وأصبحت عناوين المسلسلات تحمل ذات الرنين حتى المسلسلات الأجنبية والتي كانت عادة ماتسرق ليتم عرضها على القنوات تم لي عنق عناوينها لتناسب المرحلة  ذاتها الألحان التي أدمن الشعب على سماعها

وضعت لها كلمات جديدة تناسب المرحلة .

تتثائب الجدات بانتظار مسلسل أيام شامية ليشاهدن صراع الكنات و الحموات ومؤامرات الفرنسي لكن لابد للوصول إلى المسلسل من العبور عبر التقرير الجوال أو المجلة الثقافية أو من الألف إلى الياء ، حتى حفظن بيت الشعر الذي يبدأ به برنامج اللغة والناس  والذي يقول فيه مقدمه

لغة إذا وقعت على أسماعنا   كانت لنا برداً على الأكباد

ستظل رابطة تؤلف بيننا   فهي الرجاء لناطق بالضاد

 وفي لحظات اكثر إمتاعاً بقليل كان البجيرمي يقدم برنامجه طرائف من العالم ، تنام كثير من الجدات مع إنطلاق شارة المسلسل ليبدأن صباح اليوم التالي رحلة البحث عن ماحدث في الحلقة السابقة ، كان الشباب الأكثر وعياً قد بدأوا متابعة برامج القناة الثانية والتي كانت موجهة فيما يبدو لغير الناطقين بالضاد والذين لايعانون من أي إضطرابات بالكبد

حيث كانت تقتصر على برنامج يقدم فيه أغاني من فترة السبعينيات تقدمه مذيعة تم إختيار إسمها بعناية لتناسب توجه القناة اللاضادي حيث كانت تحمل إسماً ارمنياً لاتستطيع الجدات حفظه فهن بالكاد حفظن إسم إنطوانيت نجيب دون خلطها باسم محمد الشيخ نجيب .

بعد أعوام سألني شاب قادم من مدينة ساحلية ونحن نجلس سوية في أحد مقاهي دمشق التي أدمنت الذهاب إليها لاحقاً هل صحيح أنه لاتوجد في مناطقكم

 سيارات ولاباصات ولاكهرباء ، إبتسمت قليلاً ولم يزعجني سؤاله لأنني قبل سنوات فقط كنت أظن أن دمشق هي حارات أيام شامية ويحكمها أبو صياح وليس حافظ الأسد

1 تعليق
  1. خالد المحمد أبو يحيى says

    جزاك الله خير أخي أبو غيث…
    فقد عدت بنا إلى طفولتنا الجميلة …نعم طفولة جميلة رغم كل ما كان فيها من صور وذكريات .
    إنه الوطن يا عزيزي
    الوطن وذكرياته الجميلة…شئنا ذلك أم أبينا…
    أعجبنا ذلك أم أزعجنا…

    شاركناك نجاحك…وفرحنا به
    وشاركناك رحلتك…وسعدنا بما رأيت…
    عدنا معا إلى برامج التلفاز الجميلة ..
    نعم الجميلة في وقتها…

    ياصديقي الطيب.
    صعوبة الحياة في بلاد المهجر…جعلتنا نردد أقوال المشاهير بشكل معكوس كما هي الحياة ..فنقول
    “أريد من يعيدني إلى حلم الماضي..”
    كل يوم قبل نومنا نتذكر الطفولة الجميلة وأحلامها الرائعة..لعلنا نزورها ولو بضع ثواني….فنستيقظ على يوم اصعب من سابقين…هذه هي حياتنا في بلاد المهجر….لذلك نقول
    الطفولة الجميلة…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني