fbpx

مقدمة منهجية لفهم المأزق السوري وتجاوزه

0 224

بات معروفاً بأنّ البنية، بإرادتها اللاواعية، أقوى بكثير من إرادة الفرد، وأنّ البنية لا تفنى إلا إذا نمت في أحشائها بذور الموت، وعندها تكون إرادة الأفراد، إذا أحسنت السلوك بدهاء، قادرة على إزالة البنية القديمة، وتعبيد الطريق لولادة البنية الجديدة.

في المقابل؛ فإنّ الدفاع عن بنية ينهشها الفناء، والعمل على الاحتفاظ بها بكلّ الوسائل، ضرب من الوهم القاتل، إذ يمكن للعنف أن يبقي على البنية المنهارة، لكنه لا يستطيع أن يعيد إليها الحياة، بل يخلق الاستعصاء التاريخي المدمر.

ويؤدي الاستعصاء التاريخي المدمّر في تلك المرحلة، التي لا تستطيع الإرادة أن تنجز انتصار البنية الجديدة التي ولدت في أحشاء البنية القديمة، بسبب شروط ذاتية وخارجية، من جهة، وعجز إرادة البنية القديمة على إعادة الحياة إلى بنيتها بعد أن تآكلت، من جهة ثانية؛ إلى مراوحة التاريخ بين عجزين، عجز بنية قديمة عن البقاء كما كانت، بالتالي؛ عجز الإرادة المطابقة لها، وعجز البنية الجديدة القائمة في رحم البنية القديمة عن الولادة، وإذا طالت هذه الفترة؛ فإنّ الخراب سيطال كلّ أصعدة الحياة، وينتظم العنف في البلاد والعباد.

لا نستطيع أبداً استعارة بنية مجتمع ودولة وشعب لفرضها بالقوة على مجتمع ودولة وشعب آخر، إلا إذا نمت في هذا الأخير، بفعل حركة التاريخ العالمي، شروط البنية المرجوة.

وهناك ما هو أعقد مما سبق؛ ألا وهو الاختلاف الكبير بين سهولة تحطيم البنية المادية الاقتصادية والتقنية والإنتاجية، وتحطيم البنى الذهنية، التي تكوّنت عبر مئات السنين.

فالبنى الذهنية بطيئة التغير، بل وعنيدة أحياناً، والبنية الذهنية هي جملة المعتقدات والأفكار والعادات والقيم والحياة النفسية التي تكونت في بنى اجتماعية/اقتصادية قديمة، وحافظت على وجودها ردحاً طويلاً من الزمن، وتعبّر عن هذا الوجود في السلوك.

فلقد دلّل علم النفس الاجتماعي والأنتروبولوجيا على أهمية الذهنيات في فهم ممكنات التغير والتطور في مجتمع من المجتمعات، فالذهنية المتولدة من استمرار المجتمع الفلاحي/القروي، الذهنية التي تقوم على محدودية العمل، والنظرة الفوقية للعمل الحرفي، وعلاقات القرابة، والميل إلى المحافظة، وضعف الفردية؛ كلّ هذه السمات الذهنية تقع في تناقض مع الذهنية المدينية، حيث الحرفة والإنتاج والتجارة والسوق، وما يتطلبه ذلك من ذهنية التنظيم والعمل اليدوي، ومكانة رأس المال، والفردية، وضعف رابطة الدم، والذهنيتان تنعكسان، بلا شكّ، على عمل المؤسسات والنظرة إلى وظيفته .فأيّة مؤسسة تقوم على ذهنية رابطة الدم أو المذهب لا يمكنها أن تقوم بعملها القانوني في الدولة.

يتأسس على تحليلنا السابق القول الذي هو أقرب إلى البداهة:

أولاً: إنّ المجتمع، أيّ مجتمع، بوصفه بنية، يضمّ مجموعة من البنى المختلفة، وإنّ تناقضات البنى إذا ما تحوّلت إلى صراع، فهذا يعني أنّ هناك حركة موت وولادة.

ثانياً: إنّ الحفاظ على سلطة بنية واستقرارها عن طريق القوة والعنف سيقود حتماً إلى تشويه حركة التاريخ الطبيعية أو السلمية.

ثالثاً: إنّ أخطر ما تواجهه بنية على وشك الخروج من رحم التاريخ إلى الحياة؛ الذهنيات القديمة التي تعبّر عن ذاتها في حركات وفئات منظمة، لتكون سداً أمام مجرى نهر الحياة، كالذهنيات الطائفية والذهنيات الدينية -الأصولية العنفية وغير العنفية.

البنى الذهنية بطيئة التغير، بل وعنيدة أحياناً، والبنية الذهنية هي جملة المعتقدات والأفكار والعادات والقيم والحياة النفسية التي تكونت في بنى اجتماعية-اقتصادية قديمة، وحافظت على وجودها ردحاً طويلاً.

فخنق ممكنات ولادة البنى الجديدة بالعنف الداخلي أو الخارجي، أو بكليهما معاً، سيخلق ركوداً تاريخياً طويل الأمد؛ لأنّ استعادة الممكنات الموضوعية والذاتية أمر في غاية الصعوبة، وهذا يختلف عن خسارة دولة للحرب، وقد كادت بناها الجديدة أن تكون، وتجد طريقها إلى الواقع؛ كألمانيا واليابان، بعد الحرب العالمية الثانية.

رابعاً: لا نستطيع أبداً استعارة بنية مجتمع ودولة وشعب لفرضها بالقوة على مجتمع ودولة وشعب آخر، إلا إذا نمت في هذا الأخير، بفعل حركة التاريخ العالمي، شروط البنية المرجوة.

خامساً: إنّ الاعتقاد بأنّ خلق بنى إنتاجية -اقتصادية وتقنية وعلمية، مع الاحتفاظ بذهنية ما قبل البنى هذه، ضرب من الوهم، غير محمود النتائج، فكلّ تغيّر وتطوّر في الحياة المادية سيخلق الذهنيات المطابقة له، خاصة لدى الأجيال التي تعيش في البنية المادية الجديدة.

سادساً: ليس باستطاعة إرادة التجاوز أن تنجز أهداف التجاوز إلا إذا انتصرت الذهنية العقلانية السياسية، وعقلانية الفاعلين، برصد التحولات العفوية الموضوعية في البنيتين المادية والذهنية، وما تولده من حاجات، والتفكير في السبل الكفيلة بتلبية الحاجات الجديدة، بحسب الأهمية والضرورة، وانطلاقاً من جدل الإمكانية والواقع.

فترك البنى لحركتها العفوية دون تدخل الإرادة التي تمنحها طابعها الواعي، في التخطيط ورصد المستقبل، يجعل تطور البنى العفوي خالقاً للأزمات. وكلّ تراكم للأزمات، دون وجود الحلّ العقلاني والواقعي لها، يمهّد الطريق لولادة المأزق، فإذا كانت الأزمة انقطاعاً مؤقتاً في سيرورة التطور، فإنّ المأزق هو سدّ صلبٌ أمام سيرورة التجدّد والتطوّر.

سابعاً: وإذا كان من الوهم العاجز، ومن المستحيل، استعادة بنية قد تم تدميرها، فإن تحطيم العناصر التي حافظت على البنية القديمة، لا يمكن ان يتم بعناصر ببنية مشابهة من حيث الماهية مع البنية القديمة، وهذا يعني دون مشروع متجاوز وممكن يمد إرادة الفعل الثوري باستراتيجيا تحطم البنية القديمة إلى غير رجعة لا يمكن للفاعلية الثورية أن تنجز مهمتها التاريخية.

ولكل استراتيجيا رأس يتميز بالدهاء، ويقيم علاقة بالإرادة الكلية للفاعلين من حيث الأساليب وعوامل النجاح والفشل.

ثامناً: إن العقل الاستراتيجي الثوري ليس هو الذي يرهن إرادته لمطالب ومصالح العنصر الخارجي الفاعل، لأن هناك فرق كبير في الاهداف والاساليب بين الانتماء الحقيقي للفعل الثوري الوطني، وتوظيف الانتماء هذا من قبل الخارج لمصالحه الخاصة.

دون هذا المنهج في التفكير لا يمكن فهم ما جرى في سوريا، كما لا يمكن أن نتجاوز تدمير البنية في بناء بنية سياسية مجتمعية جديدة تشكل نقيضاً للبنية المنهارة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني