
مقارنة بين نمطين من الحكم السياسي وأثرهما على وحدة البلاد وتطورها
تُعد أنماط الحكم السياسي أحد أبرز المؤشرات التي تحدد مستقبل الدول من حيث وحدتها وتماسكها الداخلي، وكذلك قدرتها على التطور والنهوض بمؤسساتها واقتصادها. ويمكن تمييز نمطين متناقضين من أنماط الحكم في العالم العربي والعديد من دول العالم الثالث: النمط الأول يسعى لبناء دولة مؤسسات قانونية وديمقراطية، تقوم على الشفافية والمحاسبة وسيادة القانون؛ أما النمط الثاني، فهو نمط سلطوي يدّعي بناء الدولة، لكنه في الواقع يكرّس هيمنة جماعته الأيديولوجية أو السياسية، ويعيد إنتاج السلطة بشكل يضمن استمرارها على حساب مصالح المجتمع والوطن.
أولاً: النمط الذي يبني دولة مؤسسات ديمقراطية وقانونية
هذا النمط من الحكم يرتكز على قواعد الحوكمة الرشيدة، ويضع نصب عينيه مصلحة الوطن ككل وليس مصلحة جماعة أو فرد. تتميز هذه الأنظمة بوجود دستور واضح يفصل بين السلطات، ويضمن استقلال القضاء، ويكفل الحريات العامة والحقوق الفردية. كما تعتمد هذه الدول على الانتخابات الحرة كوسيلة لتداول السلطة، وتلتزم بإرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع.
في هذا النموذج، تُبنى المؤسسات بناءً على الكفاءة والخبرة، لا على الولاءات الشخصية أو الأيديولوجية. يتم إرساء مبدأ المحاسبة، فلا أحد فوق القانون، ويُساءل المسؤول إذا ما أخلّ بواجباته أو تورّط في الفساد. كذلك، تضمن هذه الدول حقوق الأقليات، وتحترم التعددية، وتعمل على إشراك كل فئات المجتمع في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.
ثانياً: النمط الذي يدّعي بناء الدولة لكنه يرسّخ حكم الجماعة
في المقابل، هناك نمط آخر من الحكم يرتدي عباءة الدولة بينما هو في الحقيقة يسعى لترسيخ حكم جماعة أيديولوجية أو سياسية محددة. هذا النمط يُكثر من الشعارات الوطنية ويدّعي العمل لبناء الدولة، لكنه يفرغ المؤسسات من مضمونها ويجعلها أدوات في يد جماعته الحاكمة. يُستخدم القضاء كأداة لتصفية الخصوم، وتُفصّل القوانين بما يخدم بقاء السلطة، وتُقصى القوى المعارضة تحت ذرائع أمنية أو دينية أو قومية.
غالبًا ما يبدأ هذا النمط بتقويض استقلالية القضاء والإعلام، ويتوسع في تعيين الموالين في المناصب العليا دون اعتبار للكفاءة. يتم استخدام الموارد العامة لخدمة مشروع الجماعة، وليس لصالح الدولة ككل. كما يُفرَض خطاب أحادي يُقصي كل ما يخالفه، ويُجرَّم التنوع السياسي والفكري.
أثر النمطين على وحدة البلاد
النمط الأول يعزز من وحدة البلاد لأنه يُشعر جميع المواطنين بأنهم متساوون أمام القانون، وأن لهم دوراً في رسم مستقبل وطنهم. التعددية والشفافية تخلق حالة من الرضا السياسي والاجتماعي، وتُقلّص الفجوة بين الدولة والمجتمع، مما يجعل احتمالات الانقسام أو التمزق أقل بكثير.
أما النمط الثاني، فهو يهدد وحدة البلاد لأنه يؤسس لانقسامات حادة في المجتمع. عندما تُقصى فئات واسعة من المواطنين أو تُصنّف على أنها “أعداء” أو “غير وطنيين”، فإن الشعور بالانتماء إلى الوطن يتراجع، وتبرز الهويات الفرعية كبديل عن الهوية الوطنية. بل وقد يؤدي هذا النمط إلى صراعات أهلية أو حروب داخلية، كما شهدنا في عدة دول تحكمها نُخب أيديولوجية لا تعبأ بالشراكة الوطنية.
أثر النمطين على تطور البلاد
التطور في أي دولة يحتاج إلى بيئة مستقرة، مؤسسات فاعلة، إدارة نزيهة، واستثمار في الإنسان والتعليم والصحة والبحث العلمي. هذه الشروط لا تتوفر إلا في النموذج الأول، حيث تُمنح الحرية للمبادرات، وتُكافأ الكفاءة، ويُشجَّع الابتكار.
في المقابل، النمط الثاني يقود إلى تخلف اقتصادي وتراجع تنموي، لأن القرارات تُتخذ بناءً على مصالح الجماعة الحاكمة، لا على أسس علمية أو موضوعية. كما أن الفساد يتفشى في غياب الشفافية والمحاسبة، ما يؤدي إلى هدر الموارد، وفشل الخطط التنموية، وهروب الكفاءات، وانهيار الثقة بين الدولة والمجتمع.
الخلاصة
يمكن القول إن الفرق بين النمطين هو فرق بين مشروع دولة ومشروع سلطة. النمط الأول يُعلي من شأن الدولة ويجعلها الإطار الجامع لكل أبنائها، بينما النمط الثاني يُعيد تشكيل الدولة لتكون أداة في يد جماعة معينة. الأول يضمن بقاء الوطن، والثاني يضمن بقاء الحكم حتى لو على حساب الوطن.
لذا، فإن خيار بناء دولة ديمقراطية ذات مؤسسات قوية ليس خياراً مثالياً فقط، بل هو شرط أساسي لضمان بقاء البلاد موحّدة، وتقدمها على المدى البعيد. أما التمادي في الحكم الأيديولوجي القائم على الإقصاء، فمصيره في الغالب أن يؤدي إلى التمزق والتراجع والفشل.