مقاربة أمريكية جديدة للملف السوري

دائماً ما نسمع على لسان مسؤولين أمريكان بأنّهم عازمون على تخفيف تواجدهم في الشرق الأوسط ومنهم من يقول بإنهاء هذا التواجد.

وقد يكون هذا الموضوع مادة في السباقات الانتخابية لكسب أصوات الجمهور، ويَتُمّ سَوٌق التبريرات لذلك بأنّ الولايات المتحدة لم تَعُد بحاجة لنفط الشرق الأوسط (كما كان الحال في حرب تشرين 1973) أو أنّ الإتحاد السوفييتي قد سقط ولم يَعُد الصراع معه موجوداً في كل بقعة من هذا العالم وانتصرت الولايات المتحدة وتفرّدت بقيادة العالم.

أو أنّ 15% فقط من التجارة الأمريكية تَتمّ مع الخارج ونصف هذا الخارج هو في القارة الأمريكية، ويذهب البعض إلى الميل الأمريكي لتفكيك العولمة وكل سياسات فتح الأسواق لأنها خدمت منافستها الصين بالدرجة الأولى، ولأنّ الدولار هو العملية العالمية الوحيدة وإنّ النظام الدولي الذي شَكّلته الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية يُؤمّن سيطرة مطلقة على أسواق المال والبورصات العالمية، كما أنّ الحاجة لم تَعُد لمناطق الموارد الطبيعية بل للأسواق التي تشتري تلك المواد، وعلى مبدأ الخليفة هارون الرشيد عندما خاطب الغيمة المتحركة أمطري أينما شِئت فإنّ خراجك سيعود إليّ.

 ومع كل المُبرّرات المذكورة للقيام بالانسحاب من اليابسة في الشرق الأوسط والاكتفاء بالسيطرة على الممرات والإطلالات البحرية وضمان انسيابية طرق التجارة العالمية إلا أنّ ذلك لم يَحدُث عملياً.

 وهذا الخطاب السياسي والإعلامي يَتمّ تقديمه للشارع الناخب أو للمناكفات الحزبية بينما تقوم المؤسسات الأمريكية بوضع الإستراتيجيات الكبرى وتعديلها أو تغييرها بمشاركة من السياسيين بالطبع، حيث يوافق أعضاء الكونغرس كل عام على ميزانية الحرب والدفاع والبالغة تقريباً 780 مليار دولار وهو رقم أسطوري قياساً لميزانيات الدول الكبرى الأخرى ويقوم بدفعه المواطن الأمريكي نفسه.

والسؤال البديهي الذي يَخطر على البال من يريد تخفيف انتشاره العسكري حول العالم لا يحتاج لكل تلك الميزانيات.

كما أنّ وجود القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى في المنطقة (السنتكوم) وهي من أكبر القيادات العسكرية الأمريكية في خارج الولايات المتحدة، حيث يَتبع لتلك القيادة أسطولان بحريان كاملان (الخامس والسادس) وعشرات القواعد المنتشرة في المنطقة مع تواجد دائم ل 34 ألف جندي في تلك القواعد.

 ويعلم المُخطّط الإستراتيجي الأمريكي أنّ أحداً لم يُفكّر في النيل من قلب الولايات المتحدة إلا حفنة من الإرهابيين في 11 أيلول 2001 وقد خَطّطوا وقدموا من الشرق الأوسط، وهذا العمل الذي لم يَجرؤ على فعله لا النازيون ولا السوفييت ولا أحد غيرهم، وهو ما أدى لاهتمام أمريكي أكثر في المنطقة وقد قاموا بحربين متتاليتين في أفغانستان والعراق بسبب تلك الضربات.

ونعلم أنّ انتخاب الرئيس أوباما بعد سلفه جورج بوش تَمّ تحت شعارات إنهاء الحروب والعمل على عدم التدخل في النزاعات والانسحاب من البَرّ كعهد أمريكي جديد وعدم تكرار الإخفاقات التي أحدثها تحطيم أفغانستان والعراق.

وفي عام 2011 أنجز الرئيس أوباما سحب القوات الأمريكية من العراق وأبرم مع الحكومة العراقية اتفاقية تعاون عسكري وتم الإبقاء على بعض المستشارين.

ونعلم أنّ الولايات المتحدة تَبعد عن سوريا والعراق آلاف الكيلومترات مع وجود المحيط الأطلسي كعازل بين البر الأمريكي وغيره، إلا أنّ واشنطن كانت تُراقب بقلق تَمدّد تنظيم داعش في سوريا والعراق والتهامه لكل البنى الضعيفة الموجودة أمامه وبات ينتشر من أبواب بغداد إلى أبواب حلب وبات يُشكّل تهديداً على مصالح الولايات المتحدة، فأقدم نفس الرئيس الذي أتى إلى البيت الأبيض تحت شعار إنهاء الحروب والتَدخّلات أقدم على إنشاء تحالف دولي ضخم للحرب على الإرهاب وتقوده الولايات المتحدة منذ ولادته في آب 2014 ولازال مُستمرّاً لحد الآن.

 أدارت الولايات المتحدة الحرب في سوريا عن بُعد في البداية وتَحكّمت بكل مساراتها وتطوراتها الرئيسية وكانت راضية عن المواقف والأفعال الداعمة لطرفي الصراع (الثورة والنظام) ووجدت فيها ساحة لاستنزاف الخصوم والضغط عليهم بنفس الوقت بمعنى ترهيبهم وترغيبهم وكانت خطوطها الحمراء والتي تعلنها على الملء بأنّ لا حل عسكري في سوريا والحل السياسي هو المخرج من الأزمة، ووضعت إطاراً للحلّ هو القرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن.

وكانت الولايات المتحدة تسعى (أو تلهث) للوصول لاتفاق نووي مع طهران واستخدمت الملف السوري كعصا تَهُشّ بها على طهران لإدراكها أهمية سوريا لها، فتجاوزت خطوط رئيسها الحمر عندما استعمل الأسد السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية واكتفت بنزع سلاح نظام الأسد الكيماوي (وتلك مصلحة عليا لإسرائيل) ووصلت الرسالة لطهران من واشنطن بأنّ الولايات المتحدة لا تنوي إسقاط حكم الأسد بعد أن منحها الأخير كلّ المبررات الشرعية والأخلاقية لإسقاطه.

 هذا التفاهم الضمني بين الولايات المتحدة وطهران أثمر في النهاية توقيع الاتفاق النووي 2015 والذي أسّس بدوره للتدخل العسكري الروسي لتغيير المعادلة العسكرية على الأرض وإجهاض أيّ مسعى (أو حلم) بإسقاط الديكتاتور، وبرز للعلن التفاهم الأمريكي الروسي والذي تعاملت به واشنطن كتوكيل مُحدّد وبشروطها لموسكو لإنجاز حَلّ في سوريا يَضمن نفوذاً لموسكو لا تراه واشنطن أنّه يُشكّل خطراً على مصالحها.

وبعد التدخل الروسي وُلِدَ مسار أستانا الثلاثي بزعامة موسكو ورضى واشنطن لتهيئة الارض للحلّ (أو لِحَلّ) مما تُتيح تكريس معادلة عدم انتصار النظام وعدم هزيمة المعارضة، وانقضت خمس سنوات من عمر أستانا والولايات المتحدة لا تُعارضه بل تَمنحه شرعية حضور المبعوث الأممي وحضور أمريكي أحياناً وحضور لدول الجوار السوري لمساعدته على إنجاز ما أوكلت موسكو به لإنجازه.

وقد انهار هذا المسار عملياً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ولم يبقَ منه إلا ملامح المكابرة والتحدي الروسية التي تُسبّب بسماع القعقة دون مشاهدة الطحين.

أيضاً سبب الغزو الروسي لأوكرانيا انهيار مسار هام جداً ظهر ولأنه وُلِدَ في مؤسسات المخابرات لم يحظَ بتغطية إعلامية كبيرة و هو التفاهم بين رؤساء أجهزة الاستخبارات بين روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل عَقِدَ في القدس عام 2018 وأسّس لتسليم الجنوب السوري لروسيا وفق شروط وطلبات أمريكية إسرائيلية وخطوط حمر تم وضعها على موسكو، وأسّست تلك الاجتماعات لرعاية موسكو للصراع الرمادي بين إيران وإسرائيل وضبطه والتحكم به، وبالتأكيد كان يَتضمّن ذلك التفاهم تحجيم النفوذ الإيراني حيث كان يرغب بذلك الجميع بما فيهم العرب.

لم تلتزم موسكو بذلك وطمعت في التهام حصص غيرها والتفرّد في سوريا كغنيمة روسية.

قام الأمريكان بوضع قانون قيصر على نظام الاسد وهو في الحقيقة مُوجّه ضِدّ الروس الذين خذلوهم وذلك لحرمانهم من أيّ إنجاز سياسي من حربهم في سوريا، كما قام الأمريكان بالتموضع العسكري شرق الفرات والإمساك بمنابع الثروة التي يحتاجها الروس لكي يتمكن النظام من الوقوف على قدميه.

وهذا التفاهم أيضاً انهار بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وقد كان سابقاً قائماً في غرفة العناية المُشدّدة بعد أن حاول الروس خداع شركاءهم فيه.

الانهيار الثالث والذي حصل بالمقاربة الأمريكية للقضية السورية هو بعد السابع من أكتوبر من العام الماضي حيث نَسَفت عملية طوفان الأقصى أوهام استمرار التخادم الأمريكي الإيراني في المنطقة ولم يَعُد بالإمكان الركون لأيّ تفاهم مع إيران لا فوق الطاولة ولا تحتها، حيث أثبت 7 أكتوبر رغبة إيرانية حقيقية في قلب الطاولة على الولايات المتحدة وإسرائيل إستراتيجياً. وإن تم تدارك الأولى فلن يَتمّ السماح في الثانية ولم يعد ترك السكين الإيرانية على رقبة إسرائيل عبر الميليشيات التابعة للحرس الثوري أمراً مقبولاً أو يُمكن التفاهم حوله عبر مفاوضات سرية لضباط الامن أو السفراء تُعقد في الدوحة أو مسقط أمراً يمكن أن يحدث.

 وبالتالي لابُدّ من تفكيك تلك الميليشيات، وقد تكون البداية في لبنان عبر شَنّ حرب وشيكة على الحزب لتحطيمه وهو ما تُحاول إيران تفاديه حالياً وممكن أن يترافق ذلك مع إغلاق معبر البوكمال وهو طريق الإمداد البري الرئيسي للحزب وباقي الميليشيات في سوريا ليس بعمل بري (لم تنضج ظروفه بعد) بل بحظر مرور الأسلحة والدعم اللوجستي عبر توسيع مجال الحظر لقاعدة التنف فوق الـ 55 كم مع استهداف جوي مباشر ودائم لأي مركبة تَعبر الحدود ويُشكّ بأنها تنقل دعماً بالسلاح.

لاشَكّ أنّ المحور الروسي الإيراني لم يَتقدّم منذ انتهاء المعارك الكبرى في ربيع 2020 وبدأ دوره ينهار تدريجياً بِدءاً من تَورّط الروس بحربهم في أوكرانيا وبدأ الضعف يَدبّ في المحور وتَكلّل ذلك بخروج السويداء من سيطرة الأسد.

وعلى وقع الحرب الجارية الآن من المُؤكّد أنّ ضعفاً إيرانيا سيظهر أكثر في سوريا كنتيجة طبيعية لهزائمها بعد 7 أكتوبر وما سَيترتّب من قصقصة اخرى لأذرع الحرس الثوري في قادم الأيام.

إنّ انهيار تلك المُحدّدات الثلاثة في المقاربة الأمريكية للقضية السورية سَيُحتم إتباع سياسة جديدة في سوريا والتي هي ساحة من ضمن ساحات الشرق الأوسط الجديد التي تعمل عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها امتداداً من باب المندب لضفاف شرق المتوسط مروراً بسوريا والعراق، وبناء نظام شرق اوسطي خالٍ من روسيا وإيران ويستند على دعائم تعاون تركي عربي كعمود إستراتيجي رئيسي في المنطقة بحيث يضمن امن الدولة العبرية ويُنهي أيّ تفاهم أو مشاركة مع روسيا وإيران اللتان انهارت معهما كُلّ التفاهمات السابقة.