fbpx

مفاتيح التغيير ومغاليق الفوضى

0 111

استكمالاً لمقالنا السابق حول الحراك في المناطق المحرّرة، الذي اختلطت فيه المطالب وتعدّدت وتنوّعت وهي في اغلبها ظاهرها محقّ، وإقرارنا بما هو محقّ ومطالبنا بضرورة الاستجابة لها من قبل حكومتي المنطقة المحرّرة، نورد مقالنا التالي حول بعض المفاهيم التي يتم تداولها بالتوازي مع الحركات الاحتجاجيّة.

واؤكّد وكيلا يُفهم كلامنا على أنّه دفاعاً عن أي طرف أو تعصّب لأي فئة وإنما هو بيان لابُدّ منه لبيان تركيبة هذه الحكومات والدلالة على أدوات التغيير المُجدية لتحقيق مطالب التغيير انطلاقاً من المستوى الرفيع من الوعي الذي شهدته من قبل أطراف الحراك وحرصهم على سلامة وحماية مصلحة واستقرار وامن مناطقنا المحرّرة التي كانت محل اجماع الجميع.

قال الرئيس الأمريكي الثالث ’’توماس جفرسون‏‘‘: ’’إن شيئاً من التمرد من حين لآخر شيء جيد وضروري في الحياة السياسية مثلما العواصف في الطبيعة‘‘.

 وانطلاقاً من قناعتنا بما قاله رغم عدم وصوله الينا من قبل فإننا نؤكِّد ما قاله، باعتبار أن الثورة سنّة تاريخيّة وضرورة اجتماعيّة يفرضها الواقع واتجاهات السلطة القائمة ومدى قربها وبعدها عن العرف والدستور ومدى التزامها بواجباتها وتحمّل مسؤولياتها أمام الشعوب.

وحيث أنّ توجيه الرأي العام عبر صنع الوعي العام ونشره هو أداة النخبة لدفع وتوجيه الشعوب للتغيير والثورة، ومن ركائز صناعة الوعي العام في ظل الثورات عدم الانسياق الأعمى وبدون وعي وراء الأمنيات والآمال أو عدم الاكتراث بجذور المشكلات الاجتماعية ومسارها التاريخي ونتائجها ومآلاتها لِما لها من تأثير في تشخيص أسباب الثورة وفي شحن وتحفيز مكنونات الثورة في النفوس وتوجيه الرأي العام وتوظيفه في تحقيق اهداف الثورة، وتفادي أهم المشكلات التي تعترض الثورات وهي مشكلة تضارب المصالح الاجتماعية والسياسيّة التي تعتبر أهم محددات السلوك الاجتماعي الرئيسية الامر الذي يقتضي من المثقف الثائر أن يكون معبراً عن الحقيقة.

وهو ما نحتاجه اليوم بل نحن بأمسّ الحاجة إليه في هذه المرحلة من مراحل الثورة السوريّة العظيمة التي طغى عليها الجدل والخلط في المفاهيم واللعب على المصطلحات والخلط بين الثورة وغاياتها واساليبها وبين الحكومات الشرعيّة والدول وغاياتها وادواتها، وانطلاقاً من مسؤوليتنا الدينيّة والثوريّة والاخلاقيّة لابُد لنا من تصحيح وتحرير بعض المفاهيم والمصطلحات التي يتم تداولها في معرض الحديث عن الثورة مثل مفهوم الثورة والمعارضة ومفهوم النظام السياسي والثورة، تداول السلطة، أدوات التغيير الشرعيّة وأدوات التغيير الثوريّة وغيرها من المفاهيم التي ظهرت مؤخّراً بالتزامن حركات الاحتجاج في مناطقنا المحرّرة على ضفّتيها الغربيّة والشماليّة.

مفهوم النظام السياسي يُعرّف بأنّه: شكل من أشكال المجتمع الحاكم المتضمَن في البيئة الشرعيّة ’’الدستورية والقانونيّة‘‘ والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية”.

أي أنّه مجموعة من الممارسات والسلوكيات المقنّنة، والتي تلعب دوراً هاماً في تنظيم عمل المؤسسات والقوى في المجتمع الواحد بشكل قانوني، سعياً لتحقيق الرفاهية والأمان للدولة داخلياً وخارجياً، وبالتالي تحقيق العدد الأكبر من المصالح التي تتماشى مع مصالح الشعب، وتعتبر المؤسسات الصانعة للقرار السياسي هي المسؤولة عن تطبيق هذا النظام السياسي، وهي السلطات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وجوهره يكمن في مجموعة قواعد اللعبة السياسية وبين الجهات الفاعلة الجماعية ’’الحكومات، والمؤسسات البيروقراطية، والأحزاب السياسية، وجماعات المصالح‘‘ التي تعمل ضمن هذا النظام، ويُضاف إليها الجماعات غير الشرعيّة كحركات التحرّر والحركات الثوريّة لعِظَم تأثيرها في الواقع السياسي لبعض الدول والتي تقوم على فرض مشروعها الثوري كبديل عن النظام القائم وتتّخذ من التظاهر أو الاعتصامات أو الاحتجاجات أو مقاطعة السلطة أو الخروج العنيف عليها أدوات للانقلاب على النظام القائم فيكون الصراع الأيديولوجي بينهما هو صراع بين الشرعيّة والمشروعية.

ركائز النظام السياسي القائم على الشرعيّة:

وجود سلطات الدولة الثلاث ’’التشريعيّة – القضائيّة – التنفيذيّة‘‘.

وجود بيئة شرعيّة تتمثّل في المنظومة الدستوريّة والقانونيّة ’’دستور – قانون انتخابات – قانون أحزاب- قانون جمعيّات..‘‘.

وجود رئيس دولة يقوم بتطبيق الدستور ومراقبة حسن تطبيقه وتطبيق القوانين والعمل على احترامهما واحترام مبدأي فصل السلطات وتوزيعها، واصدار المراسيم التنظيميّة والتشريعيّة التي تكفل ذلك.

ويقوم النظام وفقاً لما ذُكر بممارسة السلطة عبر اعمال السيادة الداخليّة على إقليمه من خلال مؤسساته السياسية والتي يلعب فيها شكل الدولة ونوع النظام السياسي دوراً مهمّاً في عمليات اتخاذ القرار وسائر ما يتعلق بصنع السياسات، وتوزيع موارد الدولة بصورة إلزامية بتطبيق الدستور والقانون أو إكراهية من خلال استخدام الإكراه المادي التي تخوّله به النصوص الدستوريّة والقانونيّة اللجوء اليه في حالة الخروج على القانون، حفاظًا على حقوق المواطنين وفرض احترام القانون على المخالفين، ومع توافر الضمانات الدستوريّة والقانونيّة لأي مواطن يتضرّر من فعل السلطة الحقّ بالتظلّم والمطالبة بإلغاء القرار الإداري والمطالبة بالتعويض في حال وقوع الضرر امام السلطات القضائيّة المختصّة وتحت رقابة البرلمان الذي يملك محاسبة السلطة السياسية والتنفيذيّة عبر آليات حجب الثقة عنها وإعفاء الحاكم من مهامه وتنحيته عن السلطة.

وعبر ممارسة اعمال السيادة الخارجية من خلال التمثيل الدبلوماسي وعضويته في المنظمات الدوليّة والاقليميّة.

ومن مظاهر سيادته السيادة الداخليّة وصلاحياته بالتشريع وسنّن القوانين واصدار اللوائح والأنظمة الداخليّة، وحفظ أمن وسلامة المجتمع وفقاً لأحكام القانون عبر الأجهزة الأمنية، والمؤسسات القضائية. وصلاحيّة استغلال الموارد الاقتصاديّة الوطنيّة وتوزيعها وإعادة توزيعها وهو المسؤول عن تحقيق رغبات وتنفيذ مطالب مواطنيه وفقاً لمعايير العدالة بين المواطنين وهو المسؤول عن استيعاب مطالب الأفراد، والعمل على تلبيتها في حدود ما لديه من موارد عبر قنوات الاتصال بين الجهات الحكومية الحاكمة والمواطنين عبر أعضاء المجالس التمثيليّة المنتخبة وكل هذا مرهون بقدرته على تعبئة الموارد المادية من الداخل والخارج من أجل تلبية تلك المطالب، كالضرائب المباشرة وغير المباشرة، وإيرادات المشروعات المملوكة للدولة. واستخدام الرموز والشعارات لتعزيز المواطنة وتنمية الشعور بالمسئولية، والتعبئة الروحيّة للدفاع عن الوطن والتضحيّة في سبيل ذلك. من خلال وضع الخطط الاستراتيجيّة وصنع السياسات وتعبئة طاقات المجتمع المادية غير المادية وتوظيفها، وفي مقدمتها الطاقات البشرية والثروات، وتحقيق الانسجام والتعايش بين أبناء المجتمع الواحد، واستيعاب جميع أنواع الاختلافات بينهم والعمل من أجل الحصول على الرفعة والعزة والرفاه للمجتمع والدولة وإرساء دعائم السلام من خلال إزاحة المخاطر الداخلية والخارجية، من خلال أجهزة الأمن الداخلية والخارجية والسعي إلى تطبيق القواعد القانونية والدستورية على الواقع السياسي.

الثورة وحكومتيّها:

الثورات ليست حركات دستوريّة بل هي انقلاب على الدستور والقانون باعتبارهما أداتان من أدوات النظام السياسي وبهذا تختلف عن المعارضة السياسيّة التي تنطلق من حقوقها الدستوريّة والقانونيّة التي تتضمّنها نصوص الدساتير وقوانين الانتخابات وقوانين الأحزاب وقوانين الجمعيّات.

وتختلف الغايات الثوريّة عن غايات الأنظمة السياسية بأنّ غاية الثورة البعيدة هي تحقيق الانقلاب الجذري على النظام القائم وبناء نظام جديد وفق قيم أسمى وأعلى من قيم النظام القائم تسوده العدالة والمساواة وبذلك تختلف عن المعارضة السياسيّة التي غالباً ما يكون سقف غاياتها التغيير والإصلاح السياسي والدستوري والقانوني.

وتتدرّج أدوات الحركات الثوريّة بين الإضرابات والمظاهرات والانقلابات العسكريّة والكفاح المسلّح، وتختلف عن أدوات تغيير النظام السياسي أو إصلاحه من قبل المعارضة التي عبر الأدوات الشرعيّة المتمثلة بالاستفتاء والانتخابات والتي غالباً ما تفضي إمّا الى مشاركة المعارضة في السلطة وتقاسمها مع النظام أو توزيعها محاصصة بينهما.

بينما سلوك المعارضة في تغيير النظام السياسي تشكيل الجمعيات أو الأحزاب والسعيّ لكسب شرعيّتها الدستوريّة والقانونية من خلال طلبات تسجيلها وفقاً لقانون الأحزاب ومن ثم المشاركة في العملية السياسيّة وفقا لقانون الانتخابات.

أما السلوك الثوري فهو يتدرّج من الفوضى الفرديّة ثم الجماعيّة وعند بلوغها الذروة عند نقطة اضطراب النظام القائم الذي يؤشِّر إلى زعزعة أركانه التي تبدأ معها عمليّة تفكّك بنيته المؤسساتيّة وانحسارها عن أجزاء من إقليم الدولة ما يُشكّل فراغاً ’’سلطوياً‘‘ يتطوّر السلوك الثوري وتحت ضغط الضرورة الثوريّة الى تنظيم السلوك الثوري عبر إنشاء هياكل ’’’سلطويّة‘‘ ثوريّة تقوم بسدّ الفراغ والقيام بمهام الولايات الشرعيّة العامة وهي إقامة مجالس الحلّ والعقد التي تقوم مقام البرلمانات والسلطات التشريعيّة وهي التي تتولّى إنشاء المحاكم وتعيين القضاة، وإنشاء قوات الحماية والدفاع وتعيين قادتها، وهي التي تقوم على رعاية مصالح الناس وحماية دينهم وعقولهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وتعزيز السلم الأهلي، والأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي. وكل هذه الولايات هي ولايات ’’الضرورة‘‘ فهي مؤقّتة وطارئة تنتهي مهامها بانتصار الثورة وبناء مؤسسات الدولة الجديدة.

وهذا ينطبق على سلطات إدارة المناطق المحرّرة في ادلب وفي شمال حلب، ففي ادلب تبنّى أهل الحلّ والعقد نظام الشورى كمرجعيّة لإضفاء المشروعيّة الثوريّة على تشكيل مؤسساتهم ’’الحكوميّة‘‘ والإدارية والعسكريّة والخدميّة والامنيّة والقضائيّة، ويُعتبر مجلس الشورى هو مرجع التشريع واعتماد الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع ومرجعيّة للتقاضي، وهو صاحب الولاية في التعيين والاقالة هو من يُشكّل الحكومة وهو من يمنحها الثقة ويحجبها عنها مجتمعة أو منفردة هو من المفترض أن يكون صاحب قرار الحرب والسلم.

 بينما تبنّى اهل العقد والحل في شمال حلب الائتلاف الوطني كمرجعيّة لإضفاء المشروعيّة الثوريّة في بناء مؤسساتهم ’’الحكوميّة‘‘ فهو من يُشكِّل الحكومة ويعتمد المرجعيات الدستورية والقانونيّة حيث اعتمد دستور سنة 1950 والقانون الوطني السوري، واصدار اللوائح والأنظمة الداخليّة أو يصادق عليها، وهو من يمنح الثقة عن الحكومة مجتمعة أو منفردة وهو من يحجبها، وهو صاحب قرار الحرب والسلم.

كما أن كلتا ’’الحكومتين‘‘ لا تتمتّعان بالاعتراف القانوني الدولي الذي يمكنّهما من ممارسة اعمال ’’السيادة‘‘ الخارجية مثل توقيع الاتفاقيات أو الانضمام الى المعاهدات الدولية أو تمثيل الدولة السورية بدلاً من نظام أسد أو اصدار وثائق رسميّة معترف بها على سبيل المثال ’’جوازات سفر‘‘ وهذا الوضع القانوني يحيلهما الى مجرّد إدارة تنفيذيّة للمناطق المحرّرة فقط وكل ما تقومان به هو توقيع بروتوكولات وتفاهمات خاصّة ببعض الملفات لا ترقى الى درجة الاتفاقيّة بالمعنى القانوني ولا تولِّد هذه البرتوكولات أي آثار قانونيّة ملزمة كالتي تولِّدها الاتفاقيّات.

الهوة الواسعة بين حركات الاحتجاج وبين الحكومتين تأتي من خلال مغالطة يستخدمها كلا الطرفين فالحركات الاحتجاجيّة تتعامل مع الحكومتين على انهما حكومتان تمثِّلان ’’نظامين سياسيّين‘‘ لأي تجمع أو حراك الحق بإسقاطهما أو المطالبة بتغييرهما، بينما تتعامل كلا الحكومتين مع حركات الاحتجاج على أنّهما مؤسسات وكيانات ’’خاصّة‘‘ تمثّل مكوناتها فقط ولا يُسمح لأحد بالاقتراب منهما، مما يجعل المتابع يتصوّر بأنّ الحالة وكأنّها ’’صراع على السلطة‘‘.

ومن هنا يمكننا القول بأن مطالب تداول السلطة أو اسقاط الحكومات القائمة عبر المظاهرات والاحتجاجات غير ذات جدوى من الناحيّة العمليّة أو الواقعيّة لأنّ الائتلاف ومجلس الشورى كيانات منغلقة على نفسها تقوم على ’’الولاء والمحاصصة‘‘ وتقتصر على تمثيل مراكز القوى والنفوذ في المناطق المحرّرة بالإضافة الى التمثيل المناطقي والعرقي والطائفي والحزبي والعسكري، مما ينعكس على تركيبة الحكومات المنبثقة عنهما حيث توزّع الحقائب الوزاريّة وفقاً لمبدأ المحاصصة، وليس هناك من هذه الكتل من يقبل بالتنازل عن حصته في الحكومة وبالتالي لا يمكن فرض التغيير على هذه الكتل لأنه سيؤدّي الى تفكيك هذه الكيانات وبالتالي زعزعة وجودها.

ويبقى الباب مفتوحاً على إمكانية التغيير إما من الداخل عبر المشاركة في السلطة على كافة مستوياتها بدءًا من مجلس الشورى أو الائتلاف والمشاركة في الحكومة أو القضاء والأجهزة الامنيّة باعتبارها مظاهر السيادة الوحيدة في المناطق المحرّرة، فمفتاح التغيير ومغاليق الفوضى في المناطق المحرّرة، في مناطقة حكومة الانقاذ بيد مجلس الشورى وبيد الائتلاف في منطقة الحكومة المؤقّتة.

وإمّا التغيير من الخارج عبر انشاء هيكليات موازية تمتلك مقومات التغيير والإصلاح وتملك الكفاءة والقوة انطلاقاً من مبادئ الاستقلال والحريّة على قاعدة التشاركيّة والتعاون والتكامل أو على قاعدة التنافس، بما يضمن تعزيز قيم الثورة وتحقيق مصالح سكان المناطق المحرّرة على أسس العدالة والانصاف والمساواة وعدم التمييز بما يحول دون تفجّر الأوضاع والانجرار الى الصراع الصفري الذي لا يُبقي ولا يذر.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني