مسار أستانة في خبر كان
كان لمسار أستانا (سيء الصيت) أكبر الأثر في مآلات الحالة التي وصلت إليها الثورة السورية، وإن كنت أعتبره – رغم آثاره الكارثية – كبوة جواد أو استراحة محارب، فرضته على الثورة ظروف دولية وإقليمية قاسية، وتخاذل محلي وارتهان، أدى لضياع جهود جبارة بذلت، ودماء غالية سفكت، وآهات وأنات تم تقديمها قرابين على مذبح الحرية والخلاص من استبداد نصف قرن، لواحد من أسوأ أنظمة الطغيان التي عرفها التاريخ.
كانت إدارة الظهر الدولي والإقليمي لرعاية حل سوري تم التوصل لخطوطه العريضة بقرار دولي وافق عليه المجتمع الدولي بالإجماع لكنه كان يفتقر إلى الارادة السياسية لتنفيذه.
ولد مسار أستانا عقب احتلال الأحياء الشرقية لمدينة حلب، كانت الميليشيات ذات التابعية الإيرانية تسرح وتمرح منتشية بغض طرف غربي أو (ضوء أخضر أو برتقالي على الأقل) لتمارس كل أنواع القتل الطائفي.
هذه النشوة أو غض الطرف عن أفعالها في سورية، أتى بعد توصلها مع أمريكا والمجموعة الغربية تحديداً إلى توقيع الاتفاق النووي صيف 2015.
بينما كانت القوة العظمى المتوحشة روسيا الاتحادية، تحكمها مجموعة أهداف تريد تحقيقها في سورية، وأتى تدخلها في 30 أيلول 2015 إلى جانب قوات النظام والميليشيا الإيرانية المنهارة تماماً، برضى دولي وإقليمي تحت ذرائع مكافحة الإرهاب أو كما يشاع تسليم الولايات المتحدة روسيا إدارة الملف السوري.
وكان لابد من إدارة الخلاف مع النفوذ التركي، مصدر الدعم شبه الوحيد المتبقي للثورة السورية وفصائلها، فاجتمع الأعدقاء الثلاثة بمسار تفاوضي لتجنب الصدام المباشر بين القوات والاتفاق على إدارة الصراع السوري، بحيث كانت إيران وروسيا تمثلان الحليفين الصلبين للنظام والمدافعين عنه، تواجهان تركيا والفصائل العسكرية للثورة المدعومة منها أو عبرها، وتتالت الاجتماعات الكارثية لجولات أستانا إلى أن وصلنا للجولة رقم 18 التي أعتقد أنها الأخيرة ولن تكون بعدها جولة تالية.
التباعد الإيراني – الروسي
لاشك أن العلاقة الروسية – الإيرانية يشوبها الكثير من الغموض، فهما ليسا حلفاء ولكنهما يتعاونان في ملفات معينة ويستطيعان الحفاظ على تنسيق ما، رغم اختلافهما استراتيجياً.
وافقت روسيا على كل القرارات الدولية التي اتخذت بحق إيران (وكلها تحت الفصل السابع وفي أعوام متتابعة) حتى تم التوصل للاتفاق النووي عام 2015.
أيضاً التزمت روسيا بالعقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عند انسحاب الولايات المتحدة منه، وساهمت بتعويض النقص من المعروض العالمي بسبب سياسة صفر نفط التي طبقتها الإدارة الأمريكية الجمهورية على إيران، وجمدت كل الأصول والودائع وأوقفت كل أوجه التعاون التجاري تماشياً مع العقوبات الأمريكية (وليس الأممية) التي فرضها ترامب عام 2018.
وفي سورية كان واضحاً للجميع أن الاهداف الإيرانية في سورية متناقضة جذرياً مع الأهداف الروسية، إنما اقتضت ظروف المعركة التزاوج بين القوة الجوية الروسية مع قوى المشاة الموالية لإيران، لتحقيق التقدم المرجو من كليهما على الأرض إضافة لحاجة طهران الماسة للحماية السياسية والدبلوماسية التي توفرها روسيا للنظام السوري.
ولم يأبه الروس كثيراً للاعتراضات الإيرانية على العلاقات الإسرائيلية – الروسية الوثيقة، وخاصة عدم التصدي، بل التنسيق مع الإسرائيليين لقصف ما تراه إسرائيل مهدداً لأمنها الوطني من أشكال التموضعات الإيرانية في سورية.
إلا أن ما برز مؤخراً من خلاف إيراني – روسي عميق، هو أن الاتفاق النووي الذي تفاوضت عليه إيران مع المجموعة الدولية (5+1) قد وصل لمراحله الأخيرة قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، وحتى أن موعد توقيعه حدّد في منتصف شهر آذار، ويلقي الإيرانيون باللوم على الروس لمحاولتهم إرجاء التوقيع عليه، بحجة تحصيل شروط أفضل من الولايات المتحدة، وكانوا يبيتون قرار الغزو، وفعلاً بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا قبيل توقيعه بأيام.
بدا احتجاز بوتين للاتفاق النووي واضحاً (بل مبرراً من وجهة نظر روسية)، حيث طالب بضمانات عدم تعرض العلاقات التجارية مع إيران للعقوبات الغربية (وهو مطلب مستحيل أن توافق عليه واشنطن)، واستخدم بوتين ليس الاتفاق النووي وحده بل إيران كلها كورقة مساومة بينه وبين الغرب، خاصة لإعاقة تدفق الغاز والبترول الإيراني إلى السوق الدولية بغية خفض الأسعار التي حلقت عالياً بعد الحرب. أو لإجهاض أي خطة غربية بفرض حظر أو عقوبات شديدة على قطاع الطاقة الروسي.
التباعد التركي – الإيراني
كان واضحاً الانزعاج الإيراني من الدور التركي المتنامي في أهم حلقات الهلال الفارسي، حيث كان لتركيا دور هام في توحيد العرب السنة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وإنتاج كتلة وازنة مع توثيق التحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاتي بزعامة مسعود البارزاني (حليف تركيا القوي) بوجه الأحزاب الشيعية الموالية لإيران.
وكانت إيران أيضاً غير سعيدة بالدور التركي في أذربيجان، خاصة بعد حسم حرب ناغورني كاراباخ لمصلحة أذربيجان.
أعقبه في العام 2021 حركة نشطة أدت لكسر الجليد بين مصر وتركيا من جهة، ومصر والسعودية والإمارات من جهة أخرى.
توج التقارب الإماراتي – التركي بزيارات عالية المستوى على مستوى الزعماء بين البلدين وتوقيع اتفاقيات تعاون متعددة منها ماهو دفاعي وأمني، وهو ما أشار اليه الرئيس التركي اختصاراً، بأن أمن الخليج من أمن تركيا.
جرى أيضاً تقارب تركي – إسرائيلي توج بزيارة رئيسها إلى أنقرة.
وتبدو في الأفق، زيارة متوقعة للرئيس التركي إلى المملكة العربية السعودية، للارتقاء بالعلاقة إلى مستويات عالية، وقد تم إزالة آخر العقبات من وجهها بإعلان المدعي العام التركي إقفال التحقيق بقضية مقتل الخاشفجي وإحالة القضية للقضاء السعودي لمعالجتها.
كل ذلك تراقبه إيران من قمة شرم الشيخ الثلاثية إلى قمة العقبة الرباعية ثم قمة النقب وتشكيل منصتها المعادية لإيران، التي كانت الدولتان الغائبتان الحاضرتان فيها هي تركيا والمملكة العربية السعودية.
طبعاً تجلى الاحتقان أو النقمة الإيرانية على تركيا بإيقاف ضخ الغاز الإيراني إليها والاعتداء على قاعدة بعشيقة بالعراق، إضافة إلى كشف عدة شبكات استخبارية إيرانية تعمل داخل الأراضي التركية.
التباعد التركي – الروسي
اضطرت تركيا وروسيا للتعاون في سورية، فبرغم حجم العلاقات التجارية القوية بينهما وخط السيل الجنوبي، إلا أنهما تصادما – إضافة إلى الملف السوري – في كل الملفات بينهما، من ليبيا إلى أذربيجان، نتيجة التوتر الذي حصل شرق المتوسط مع اليونان.
ولكن الخلاف العميق (المؤجل) هو في ملف الحرب الروسية على أوكرانيا، فقد كان الخلاف جوهرياً بين البلدين حول ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتزويد أوكرانيا بمسيرات تركية كان لها أثر واضح بإعاقة الهجوم الروسي، وليس آخرها تفعيل الأتراك لاتفاقية مونتيرو.
والتصويت التركي في الجمعية العامة لإدانة الغزو الروسي (فتركيا قبل كل شيء، عضو أصيل في حلف الناتو).
لم تنضم تركيا للعقوبات الغربية على روسيا، وأظن ذلك برضى غربي، إضافة لكون استنبول هو المكان المؤهل لاستضافة اللقاءات الروسية – الأوكرانية، حيث عقدت جولتان منها في الشهر الأول من الحرب، ولكن بتطور الحرب ستميل تركيا بشكل أضح إلى الجانب الغربي، خاصة إذا تم فرض عقوبات أممية على روسيا.
استناداً إلى ما ذكرته، فإنني أرى أن الدول الثلاث التي تشكل محور أستانا، ما يفرقها أكثر بكثير مما يجمعها، وشهر العسل الذي جمعها قد انتهى، ولن يعود المسار صالحاً للمستقبل السوري المفتوح على كل الاحتمالات.