fbpx

مدينة الأرواح الذابلة – قصة قصيرة

0 1٬054

كانت ثمة شطآن تتزين بالحور وأشجار الغرب والطرفة، وقرب الشطآن كانت بساتين تضجُّ بأشجار التفاح الصغير والمشمش البلدي وحكايا الجدات عن ساحرة، إن نظرت إليك ستصيبك رعشة روح، وتصير عصفوراً، وربما حكاية منسية.

كان الناس يمرّون في الشوارع المكشوفة أمام سياط الشمس، فتهدل من بعيد حناجر تبتدع “الموليا”، والموليا كانت ذات يوم صبيةً نافرة النهدين، جميلة المحيّا، لكنها في لحظة غضبٍ، صارت مواويل عن وجعٍ وعشقٍ وانتظار حصاد.

الموليا هي روحنا يا ولدي، قال لي ذلك أبي الذي مات قبل أن يحتلّ الذئب الغابة. وقلت لنفسي: الموليا، هي من طين الفرات وقت الفيضان، ومن جرح عشتار، وهي تمرّ حزينةً على ما جرى لماري.

لكن، لا أعرف كيف اختلطت المدن لدي، فدير الزور تشبه ماري، وهي أغرقها البكاء.

ودير الزور لم تراقص العسكر الفرنساوي في حانة الموت، المرمية قريباً من ضفاف النهر الصغير، ولم ترم أوجاعها في الماء، في وقت كان أبناؤها يعشقون عبور النهر الكبير، وهم يرسمون على صفحة الماء أفق قادم الأيام.

لكنني، حين ولجت المدينة بخفة الظل، وكان برفقتي رجل عجوز، يضع على رأسه طربوشاً أحمر، ضحكت ملء حارتين من وجع أزهار عباد الشمس، وقلت للعجوز: أنت شاعرنا الجميل، ولكن قل لي، كيف حدث هذا الدمار؟، وقل لي من رسم النهايات له؟.

نظر الشاعر العجوز في الأفق، وهو يتأمل بحزن بيوتاً تداعت وتهدمت، وشوارع أغلقتها أكوام الحجر  والخشب، وجثثاً مجهولة حرقتها طائرات عبرت منذ حين سماء المدينة.

قال الشاعر العجوز، وكان اسمه محمد الفراتي: هذه ليست حرباً يا صديقي، بل هي سحق لكلّ شيءٍ حيٍ، ويبدو إنهم يكرهون الحياة.

ومحمد الفراتي، الذي كان برفقتي، غاب في لحظة عن عينيّ، فارتسم في الأفق رتلٌ طويلٌ من عسكرٍ، يحمل كل واحد منهم شيئاً لم أتبينه من مكاني.

اقتربت منهم كظلٍ باهتٍ، كانت وجوههم خشنة الملامح، وبلا سماء، وثيابهم مغبرّة، وعيونهم تبوح بفوز صغير، كفوز طفلٍ بقطعة حلوى، اختلسها في لحظة انشغال بائع الحلوى بقامة امرأة مياسة القدّ، عبرت من أمامه.

قلت لنفسي وأنا أمرّ قريباً من رتل اللصوص: ينبغي أن أتفقد حال بيتي.

كانت المدينة لحظة اقتحامي السرّي لها خاليةً من النبض والناس والقطط المنزلية، وكانت رصاصات تئزُّ فوق رأسي، وتنبئني أنّ قناصاً لا يزال يتشبث بأي شيء يتحرك ليصطاده.

همس لي صديقي الشاعر محمد الفراتي: سنتحدث بصوتٍ خفيضٍ، كي لا تصطادنا عيون القناصين. قلت للشاعر: لست خائفاً.

 ضحك الشاعر، وقال لي: بل خائفون وأكثر، ولكن قل لي، لماذا يمرّ النهر حزيناً شحيح الصفاء، كثير الكدر؟.

لم اكن في تللك اللحظة أمتلك جواباً مقنعاً، أو فكرةً عن ضوء القمر، حين يغسل ضياؤه ذؤابات شجر الحور، فتتكسّر الظلمة قرب الضفاف.

كان عقلي مشغولاً ببيتي وبحارتنا، وحين ولجناها، كنّا نعتلي أكوام البيوت المدمرة، ونهبط.

كلّ شيء كان غريباً، فالشارع، كأنه ليس الشارع الذي صرفت من عمري أعواماً، وأنا أعدّ أبوابه، وأتأمل زخرفات أبنيته، ووجوه أصحاب بيوته.

كنت مشدوهاً، وربما كنت ضائعاً، وكان الشاعر الفراتي لا يزال يتلو على نفسه قصيدة جديدة ولدت في التوّ من هذا الدمار.

 قلت لروحي: ربما كنّا نحتاج إلى هذا الوجع لتغتسل أرواحنا من أدرانها.

 ردّ الفراتي علي بغضبٍ وقال: كيف تسمح لمخيلتك أن ترسم سبب البلاء بهذه الطريقة.

وحين وصلنا إلى البناء، الذي يضمّ بيتي بين طوابقه، اعترتني موجة ضحكٍ مفاجئة، جعلت عيني الشاعر الفراتي تجحظان بشدّة، فقال لي: ما الذي يضحكك أيها الرجل؟. قلت: شرُّ البلية!. قال: ولكنها ليست بليةً بل ولادة. قلت بتهكمٍ: ولادة من الخاصرة. وحاولت جاهداً أن أتذكر من سمّى قصته بهذا الاسم.

كان بيتي بلا شرفة، فلا أحد يعرف كيف طار اسمنتها وحديدها وحجارتها، لا بل كيف طارت الأبواب والنوافذ.

قلت للفراتي بإصرارٍ: هذا ليس بيتي. قال الفراتي: بيت من إذن؟.

في تلك اللحظة، خرج من بيتي مجموعةٌ من العسكر، وهم يحملون على أكتافهم أغراضي، فرأيت تلفازي وثلاجتي وكتبي، ثمّ رأيت واحداً منهم يرش سائلاً بلا لونٍ على ما تبقّى، ويرمي بعود ثقاب، فيشتعل البيت بالنار.

صفّقت للنار وهي تلتهم بيتي بأسنانها الحمراء، وتذكرت حالنا، حين كنّا نزور قبور موتانا، فنشعل الأشواك في ليلة الخامس عشر من شعبان.

وحين التفت إلى مكان صديقي العجوز، لأهمس له بصوت خفيض، لا يسمعه العسكر، وجدت صديقي معلّقاً على جدار، وعيناه ترصدان قمراً لم يبزغ بعد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني