مخاض اللّاحرب واللّاسِلم
إنّ تحسين الحالة التي تعيشها المناطق المحررة هي الشغل الشاغل لنا والهمّ الأولّ على سلّم أولويتنا، ومن باب حرصنا على نجاح محاولات الإصلاح أو سلامة التحركات المطلبيّة ولعدم التشويش عليها أو اتخاذ ذريعة تسيّيسها أو تطييفها أو ارتباطها بالخارج يجعلنا نؤثر في كثير الأحيان من اتخاذ موقف مما يجري، من باب الإبقاء على هذه التحركات ضمن نطاقها الطبيعي فأصحابها هم أدرى منا بمطالبهم والسلطات القائمة هي ايضاً أدرى بكيفيّة التعاطي معها، وننصح وندعم مساعي الاحرار الذين يقدّمون المبادرات القيّمة المتوزانة التي تدعم المطالب المحققة ومطالبة السلطات القائمة للاستجابة لها وإصلاح العلاقة بينها والمجتمع في المحرر بأطيافه كافة بما يحقق الغايات المنشودة.
من المثير للإعجاب والمُعوّل عليه هو مستوى الوعي الذي أظهره الجميع في المناطق المحررة المُتجلّي بحرصهم على قيم الثورة واحترامهم وحرصهم على الأخوة العسكريين المرابطين على خطوط التماس، ونبذ العنف والتحذير من الانحدار الى المواجهة بالسلاح، وتداعي كل فئات المجتمع للتفاعل والتعاطي مع هذا الحراك انطلاقاً من الإحساس بالمسؤولية الثوريّة والدينية والاخلاقيّة لترشيد المطالب وضبط الحراك والحفاظ على سلميّته وأحقيّته، ونصح ودعوة السلطات بحسن التعامل معه والإخلاص في الاستجابة لمطالبه المحقّة.
ومن أهم عوامل هذه الاضطراب هي حالة اللاحرب واللاسلم التي تعيشها المناطق المحرّرة منذ آب 2019 ومنتصف 2020 حتى اليوم نتيجة تفاهمات اقليميّة برعاية دوليّة تجلّت بتفاهمات استانا وسوتشي ومن طبيعة هذ الحالة أنّها تحمل في مقتضياتها ما يؤسس لتداعيات خطيرة مثل التفكك والتناحر بين مكونات سكان المناطق المحرّرة، وتشجيع الخصومات وخلق العداوات، وتضييق الحريّات وتفشي الفساد والاستبداد، وقمع إرادة الناس وإرغامه على الصمت.
إن هذه الحالة تُشبه مفرق طرق خطير يقتضي اختيار القرار الأسلم والأكثر نفعاً فليس أمام الجميع إلا خيارين هما إمّا الحرب وإمّا السلم وفي إحدى صوره ’’الهدنة‘‘، فالأول يقتضي تأمين الموارد البشرية والسلاح والعتاد مما يستنزف الموارد الاقتصاديّة والبشريّة مما ينعكس على مستوى الخدمات للحاضنة الشعبيّة، وأمّا الخيار الثاني يقتضي تحسين الوضع المعيشي للحاضنة الشعبية لتمكينها من الصمود والقدرة على الاستمرار وتحصينها من الانهيار امام ضغوط الحياة وضغوط المجتمع الدولي واختراق النظام وعملائه لها، مما ينعكس سلباً على تأهيل واستعداد العسكر للمعركة الفاصلة.
كما أنّ هذه الحالة هي المناخ الأمثل لتجاّر الحروب في استثمار ثرواتهم على حساب معاناة الشعب مما أدّى الى تشكيل مجموعات ضغط تُمسك بالعصب الحيوي للسلطة والسكان الامر الذي انعكس على إدارة المحرّر وتأثيرها على قرار الحرب والسلام بالإضافة لقيامها لاحتكار السلع الاساسيّة والتحكّم بأسعارها، وتغلغلها في مؤسسات إدارة المحرّر مما أدى الى انتشار الفساد، الأمر الذي انعكس على بنية المجتمع حيث انقسم سكان المحرّر الى طبقتين هما طبقة ما تحت خط الفقر تعاني من ويلاته، وطبقة الأغنياء وحيتان المال متعالية متكبّرة لا تلفت الى معاناة الطبقة الأولى، بالإضافة الى ظهور طبقة ثالثة طارئة هي طبقة ’’مُبيّضي الأموال المشبوهة‘‘ الأمر الذي أدخل أي حركة اقتصادية في الشبهات وبالتالي انتشرت ظاهرة التخوين والخلط بين ما هو مباح وما هو محظور، كما خلق آثاراً نفسيّة لدى الطبقة الأولى التي تتجسد في الشعور بالظلم وعدم المساواة، وغياب أي افق للخروج من الحالة التي يعيشوها، وكانت الشريحة الأكثر ضراراً وشعورا بالظلم هي شريحة المهجّرين قسريّاً الذين يُعانون من ألم النزوح وغصّة نهب أموالهم وأرزاقهم وتدمير ممتلكاتهم، وشعورهم بوحشة الغربة في مخيمات النزوح، وانتشار البطالة وضيق ذات اليد.
كما أن هذه الحالة هي أقرب لمرحلة التيه الذي يفرضه التهديد الدائم بعودة المعارك وبالتالي انتظار مرحلة أخرى من التهجير القسري أبوابه مغلقة من جهة مناطقنا الاصلية، ومن الحدود التركيّة من جهة أخرى بعد تشييد الجدار العازل والتشديد الأمني على الحدود، وكذلك الاضطراب في تقديم المساعدات الإنسانية الدولية والتي تُعتبر المصدر الرئيسي للشريحة العظمى من سكّان المحرر مما يؤدّي الى توقف النشاط العام في الحياة، وبقاء الأوضاع المأساوية على حالها.
كما أن غياب أي أمل لدى أهالي المعتقلين والمختفين قسريّاً بالإفراج عنهم، ومطالب المهجرين قسريّاً العودة الى مناطقهم المحتلّة التي هي بالنسبة لهم ملاذهم الآمن الوحيد اقتصادياً ومعيشيّاً التي تقتضي فتح معارك تحرير هذه المناطق يُشكّل عبئاً اضافيّا على جميع سكان المناطق المحرّرة لِما للمعارك من تكاليف بشريّة واقتصاديّة ونفسيّة يجب أخذه في الاعتبار عند اتخاذ قرار الحرب وتأهيل سكّان المحرر لتحمّل نتائجه لكيلا ينقلبوا على الفصائل.
كما تُعتبر الكثافة السكانية وتنوع وتعدّد أطياف وفئات السكّان وعلى الرغم من كثير مما يجمعهم إلّا أن اختلاف عاداتهم وأعرافهم وتمايزهم في بعضها خلق بيئة للاختلاف والخصومات والتي تطورّت في بعض الأحيان الى عداوات وفي هذا المقام لابدّ من ان نُثمّن دور وجهود مجالس الصلح الأهلية ومجالس العشائر ومجالس الوجهاء التي أصبحت صمّما أمان السلم الأهلي في المناطق المحرّرة.
إن السبب الحقيقي لما تشهده في المناطق المحررة من مخاض والذي يمكن اعتباره نتيجة طبيعيّة لهذه المرحلة وهو انتقال السلطة فيها من مرحلة التغلّب ’’الفصائليّة‘‘ إلى مرحلة التمكين ’’الحوكمة‘‘ وتشكيل الحكومات، والتمكين يتطلّب تحقيق السلم الأهلي الذي يؤدّي إلى الاستقرار والأمان اللذين يُعتبران أهم أسس الحوكمة الرشيدة، كما يُعتبر الاقتصاد والتجارة عصب حياة أي حكومة الأمر الذي يقتضي وضع خطط إنمائيّة والبحث عن مصادر تمويلها محليّاً وخارجيّاً عن طريق فتح باب الاستثمار والذي أراه هو البديل الآمن لتأمين المواد الأساسية للحياة للسكّان في حال توقّف إمدادات المساعدات الدوليّة أو اغلاق المعابر الحدوديّة التي تمرّ منها المساعدات الدوليّة الامر الذي يقتضي تحويل المعابر الحدود الى معابر التجاريّة بالتنسيق مع الشركات في الدول المجاورة.
كما أنّ غياب الوعي ومعرفة الظروف السياسيّة والعسكريّة الاقتصاديّة وتحوّلاتها الجوهريّة التي تؤثر على المناطق المحررة وسكّانها في كل شأن من شؤونها، يدفع الفئات الضعيفة والمسحوقة والمظلومة أو تلك التي تعاني من أثار الفساد ة فيها للمطالبة بالعدالة والمساواة والعدالة الاجتماعية التي لن تستطيع أي حكومة من الحكومات القائمة الوفاء ولو بـمقدار 2% منها لأسباب كثيرة.
كما إن اهم مشكلة تؤثّر على القرار العسكري سواءً ابتداءً أو نتيجةً هي غياب المشاركة الحقيقية للمجتمع في صنع القرار وخاصة قرار الحرب والسلم ففتح المعارك دون تهيئة الحاضنة الشعبيّة يؤدّي الى اضطرابها ويستثمر النظام هذا الاضطراب في تأليبها على الفصائل من خلال استهداف المخيّمات أو التجمعات السكانيّة المدنيّة، وقرارات الهدنة أو تنفيذ التفاهمات الاقليميّة أيضاً يؤدّي الى احداث شرخ بين الكيان العسكري الواحد وبينه وبين فئات من الحضنة الشعبيّة، بالتالي فإن مشاركة المجتمع من خلال ممثلين ثوار ثقاة عدول في قرار الحرب والسلم يفرض عليه تحمّل المسؤولية مع السلطة القائمة على قاعدة الغنم بالغرم، وإن غياب المشاركة ولّد لدى هذه الشرائح المجتمعية الشعور بالظلم، فهم الذين يغرمون وغيرهم يغنم فكانت ردود افعالهم عنيفة.
الحلّ: بعد استعراض ما سبق من عوامل وأسباب يكمن الحلّ في:
- المشاركة الحقيقيّة بين الحاضنة الشعبيّة وبين السلطات القائمة في كل قراراتها وخاصة قرار السلم والحرب.
- وضع معايير منضبطة وملزمة لاختيار ممثلين الحاضنة وأهمها معايير الثوريّة والثقة والعدالة والكفاءة.
- تمكين الحاضنة الشعبية هو شرط أساسي للحوكمة الرشيدة للمناطق المحرّرة التي لا يقوم إلّا على الاستقرار الحقيقي من خلال تحقيق العدالة الاجتماعيّة ورفع المستوى المعيشي للحاضنة وتأمين فرص العمل وتوزيعها بشكل متكافئ، والاستقرار لا يأتي إلّا من خلال السلم الأهلي، والسلم الأهلي لا يأتي إلا من بوابة العدالة وردّ المظالم وإنهاء الخصومات وتجميد العداوات، والعدالة لا تأتي إلا من قضاء مستقل وقضاة عدول ثقاة، ولا يأتي هذا القضاء إلّا من سلطة تمثيليّة منبثقة إمّا عن شورى حقيقيّة أو انتخابات شفافة.