fbpx

مثقف الحظيرة

0 19

لم يذهب الخيال بأفلاطون، حين راح يتحدث عن شمس المعرفة، أبعدَ من قصة ساكني الكهف، الذين يحجب عن عقولهم الصورُ الحقيقية، فلا يسمح الشعاعُ المتسلل من أحد شقوقه إلا برؤية الخيالات أو الأشباح. فالجهل هو الإقامة في الكهف، وعدم القدرة على رؤية الشمس.

لكنه ترك الباب مفتوحاً لخروج الإنسان من الكهف، ورؤية الأشياء على حقيقتها. وسكان الكهوف في الدنيا كثيرون، ولكنهم في بلادنا موجودون على نحو فاضح، وعلى أنواع مختلفة، تبعاً لاختلاف كهوف الجهل. أما حراس الكهوف من المثقفين، فهم منتشرون، يرفعون راياتهم السوداء أمام أبواب الكهوف كلِّها وداخلها. وليس من شك في أن مثقف الكهف سادنٌ مخلصٌ لهيكل الجهل، فهو معادٍ للمعرفة في سيرورتها، وللعلم في إنجازاته، وللفلسفة في أسئلتها، وللفن في تساميه. وهؤلاء، في الغالب، جمهور من المؤدلجين، الذين وُضعت على عيونهم غشاوة، فهم لا يبصرون.

لكن لم يخطر على بال أفلاطون، صاحب الجمهورية، أن يتحدث عن مثقف الحظيرة؛ ربما لم يذهب به خياله إلى حد تصور وجود الحظيرة وسكانها، فاكتفى بتصور الكهف وسكانه، الذين هم، على الأقل، قابلون للتحرر من كهفهم.

وسكان الحظائر من المثقفين، لمن لا يعلم، أنواع عديدة في بلادنا؛ فمنهم مثقف الحظيرة الأكاديمية الزائفة، ذلك المثقف الاستظهاري، الذي يحفظ عن ظهر قلب العلم المستقر، لكنه لا يدخل في عالم الصراع البشري ومشكلات الواقع، منزوٍ في عالمه الضيق، فلا هو بالعِير ولا هو بالنَّفير. وأين هؤلاء من قضايا الحرية والإرهاب والقمع والجوع؟ فالنخبة الأكاديمية، التي من المفترض أن تحظى باحترام المجتمع، ويكون لها صوت مسموع لما لها من هيبة، يمكنها أن تسهم إسهامات كبيرة في تشكيل الوعي المعرفي والأخلاقي لدى الناس.

لكن لا، فهناك حدود أمام هذه الفئة وغيرها. وأنا من عالم الأكاديمية العربية، لكن، مهما تكن هذه الحدود، فإنها لا تحول دون التعبير عن الرأي، بهذا الشكل أو ذاك، في شؤون الحياة.

أما مثقف الحظيرة السلطوية، فهو ذاك الذي لا يرى وجوده إلا بوصفه كلبَ حراسة على باب الحظيرة، التي بناها الدكتاتور لنفسه، وحشر فيها أغنامه. لكنه ليس حارساً للأغنام، فالأغنام ليست في دائرة اهتمامه، ولا يملك في الأصل ضميراً ليفكر بها، بل هو حارس لكبش الأغنام، سيِّده الواحد الوحيد. وهو يملك أصواتاً عدة للنباح: مادحةً للكبش، قادحةً لأعدائه، مبجِّلةً له، ذامَّةً لهم، مهلِّلةً لجرائمه، شاتمةً لضحاياه. فإذا كان الطاغية حُثالةً من عنف أحمق وحُمْق عنيف، فكيف هي حال حُثالته؟

أما مثقف الحظيرة الطائفية، فهو من سكان هذه الحظيرة الأصليين، الذين ما انفكوا يعلنون عن أنفسهم بأبشع صورة عرفها مثقفُ الانحطاط على الإطلاق. وأسوأ أنماط هذا الصنف من مثقف الحظيرة الطائفية هو ذاك الذي هاجر منها، أو ظُن أنه هاجر منها، لكنه سرعان ما عاد إليها، بكل حماس وفقدان للحياء، شاهِراً سردية ماضٍ ورموزه، ماضي الألم الزائف، مستعيداً رموز التاريخ المصنوعة من الوهم.

والحق أن من حسن حظ الحياة، وحسن حظ الناس عموماً، أن يشهد التاريخ بين الفينة والأخرى تمرداً من أجل الحرية، أو من أجل حياة أفضل، ويشهد، في الوقت نفسه، بروز مثقف الحرية، وسقوطاً أخلاقيّاً لـمثقف الحظيرة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني