ما الوطن؟
ما الوطن؟ يبدو السؤال للوهلة الأولى مستهجناً لأن الجواب عنه من قبيل البديهة، والحق بأن الأمر ليس كذلك.
تعالوا معي لنبدأ بالبسيط، فقد قالت العرب: كل مكان يقيم فيه الإنسان ولد فيه أم لم يولد هو وطن.
ولكن تعريفاً لغوياً كهذا للوطن ليس متطابقاً مع معنى الوطن في تحولاته الواقعية، حيث الوطن هو كل مكان تعيش فيه وتتمتع به بحقوقك فيه وتقوم بواجباتك نحوه وفيه أيضاً. فإذا عشت في مكان سواء ولدت فيه أم لم تولد ولا تتمتع بحقوقك فيه ولا تُمارس واجباتك نحوه فليس هذا المكان بوطنك.
بل إذا سكنت في مكان ومارست حقوقك كاملة فيه وقمت بالواجب الذي يلقيه على عاتقك ولم تشعر بانتمائك له فهذا المكان ليس وطنك.
وهب أنك تعيش في مكان وتشعر فيه بأنه المكان – الوطن دون أن تكون حاصلاً على جنسيته فإن هذا الشعور يجعل من المكان وطناً.
إذاً دعوني أقول: بأن الوطن هو المكان الذي تعيش فيه وتشعر فيه بالانتماء والأمان والحب وتجد فيه حضورك الذي لا تجده في أي مكان آخر مع ما يترتب على ذلك من حق وواجب. وتأسيساً على هذا المعنى للوطن اشتق مفهوم المواطنة الذي حمل مضموناً مرتبطاً بالقيم التي ذكرت للوطن، والتي دونها لا وجود للمواطن حتى لو ولد وعاش في مكان وحصل عل جنسية دولة المكان.
لكن الوطن بهذا المعنى يتعرض لأنواع من التزييف الأيديولوجي مريعة وبعيدة عن مضمونه الحقيقي الذي أشرت.
تأمل معي خطاب مؤدلجي دولة مستبدة حين يتحدثون عن حضن الوطن، فهم يوحدون بين الوطن والسلطة، وتغدو السلطة هي الوطن والانتماء الى السلطة هي المواطنة والارتماء في أحضان السلطة هو البقاء في حضن الوطن والعودة الى حالة الخضوع للسلطة عودة إلى حضن الوطن.
وبهذا المعنى يصبح تعريف الوطن هو ” مربط البقر والغنم الذي تأوي إليه ” كما جاء في معجم العربي في شرح أحد معاني الوطن. عندما يحول الطاغية أي طاغية الوطن الى مكان مخيف، إلى مكان يسلب منك الأمان ويقتلك ويسجنك ويراقبك ويسرقك ويسلط عليك الأوباش الذين يستبيحون الحق والحرية فإنه عمليا لا يقتل الوطن فقط بل ويلغي الترابط بين الوطن والحضن أيضاً. لقد كتبنا مرة نقول: عندما يقيم الطاغية ترابطا بين الوطن والموت، بين وجود الوطن ووجوده ويصبح وجوده بما هو علية من قوة عنف وتدمير هو حضن الوطن فإنه يدمر الترابط الواقعي والمنطقي والطبيعي بين الوطن والحض.
ملايين اللاجئين، بشر، يتركون الوطن ويرحلون نجاة بحياتهم ممن جعلوا من وجودهم المعادي لمفهوم الوطن (حضناً) للوطن، من دمروا الوطن حضنا يعلنون أنهم حضن.
من الأقوال الخالية من المعنى حول الوطن قول بعض الهاربين من اتخاذ الموقف الواضح من المسؤولين عن تدمير الوطن بقولهم: “الوطن فوق الجميع”.
ما هو هذا الوطن الذي يقع فوق الجميع؟ الوطن هذا لا وجود له في الواقع، لان الوطن هو هذا الجميع، الجميع في علاقاتهم المعشرية، في عيشهم المشترك، في الارض التي يعيشون عليها، في شعورهم بالانتماء الى جنسيتهم، في احساسهم بالأمان والاطمئنان، في السلطة المعبرة عنهم. هذا هو الوطن بوصفه هو ذاته الجميع، لا فوق ولا تحت. إذا زال كل هذا وتحطم لا يعود هناك وجود للوطن. وتخيل معي أيها القارئ العزيز سلطة قاهرة للناس وتابعة لدولة طائفية خارجية تتحدث عن الموت في سبيل الوطن وتدعو الجميع للعودة الى “حضن” الوطن، أي الى حضن السلطة القائمة على الغلبة والقهر وسلب الحق.
وليس هذا فحسب، فبدلاً من أن يصيب عناصر سلطة القهر الخجل من رؤية مئات الآلاف يهاجرون هرباً من سلطة الموت ويصمتون، تراهم يتحدثون عن خونة الوطن الذين فرّوا هائمين خوفاً من الموت الذي يتربص بهم جراء عنف السلطة وقهرها.
من ذَا الذي يترك الوطن إذا كان وطناً بحق، من ذَا الذي يترك، بملئ إرادته، وراءه بيته ومكان عيشه ورزقه وذكرياته والمكان الذي ألفه ويغادر الى مكان آخر مجهول.
ولهذا الكفاح الحقيقي الآن هو في خلق الوطن الذي دمرته السلطة، خلق الشروط التي تجعل من الجميع وطناً ومن الوطن حضناً حقيقياً كحضن الأم الحنون.
صدقت، اوطان الأنظمة العربية تبدأ من حذاء الحاكم نزولا.
يقتلون الناس تعذيبا باسم الوطن. بئسا لهم ولأوطانهم