fbpx

ما التنوير

0 16

ما التنوير..؟ مرة أخرى أطرح السؤال على نفسي بعد أكثر من عشرين عاما على صدور كتابي: “مقدمة في التنوير”.

بل لتعتريك الدهشة من أمرٍ ممض: أمرٍ هو للأحجية أشبه: أكثر من مئة عام مضت على هاجس تنويرٍ عربي ومازلنا نعود لطرح السؤال. كيف لسؤالٍ مضى على طرحه أزيد من قرنٍ أن يستمر مطروحاً حتى هذه اللحظة من تاريخنا المعاصر. بل قل: ما الذي يحملنا على أن نعود لطرح سؤال التنوير وبصورة أكثر إلحاحاً في واقعٍ يشهد حالات هي أشد ظلاماً من ذلك الواقع الذي أنتجه للمرة الأولى في عالمنا العربي؟.

ومهما تنوعت خطابات التنوير العربي منذ عصر النهضة وحتى الآن فإنها لم تخرج عن حقل مفاهيم: الحداثة والحرية والديمقراطية والحق والدولة المدنية، وهذا يعني أن أياً من أحوال التنوير لم يتحقق، فهل التنوير هاجس مثقف منبت، أم هو صرخة في وادٍ؟

دعوني أقل في البداية: أن العودة إلى مفهوم التنوير بوصفه مشروعاً لا يعني سوى أن الواقع لم يجب بعد إجابة عملية على أسئلتنا التي حملت حلم ما يجب أن يكون. ولعمري أن عناد الواقع هذا يجب ألا يحملنا على الملل واليأس والنكوص إلى ما قبل خطاب التنوير.

حين نطرح ما يجب أن يكون تأسيساً على التنوير فإن هذا الذي يجب أن يكون هو شئنا أم أبينا واقع في الذهن يتجاوز الواقع المعيش على نحوٍ أرقى بالمعنى التاريخي.

فليس كل «ما يجب أن يكون» تجاوزاً للواقع. بل إن فئات اجتماعية أيديولوجية قد تجعل «مما يجب أن يكون» عودة إلى واقع أدنى في التاريخ من الواقع المعيش فيكون «ما يجب أن يكون» ظلامياً ونكوصاً.

دعوني انطلاقاً من هذا الذي يجب أن يكون على نحو أرقى أن أحدد التنوير.

ولعمري أن وحدة ما يجب أن يكون والتنوير هي التي تبقي على التنوير «مفهوماً» تاريخياً ذا حياة، وإن «ما يجب أن يكون» تجاوزاً للواقع المعيش هو الذي يعطي التنوير سماته الخاصة وقل تعيّن دلالة التنوير تاريخياً.

إننا إذ نمنح الحياة للمفهوم فإنما نمنح له الدلالة الجديدة. أو قل نثري المفهوم بما لم يكن ليحتويه من دلالات.

التنوير دعوة لتحقيق واقع غير متحقق على نحوٍ أرقى

ما هذا «النحو الأرقى» الذي يدعو إليه التنوير أو الذي يحدد وظيفة التنوير كما نراها؟.

وقلنا إنه واقع في الذهن متجاوز لواقع معيش، وكلمة أرقى هنا تنطوي على معنيين معنى قيمي ومعنى وجودي معاً، دون الاعتذار من أولئك الذين يشطرون المفاهيم إلى ضربين قيمي ووجودي.

ها نحن إذاً أمام واقع معيش وواقع تاريخي أرقى بالمعنيين معاً.

إن أهم سمة من سمات الواقع المعيش لا وجود الإنسان الذات. ماذا يعني بلا وجود إنسان ذات واقع بلا وجود الإنسان – الذات، واقع وجود أكثرية من الكائنات البشرية تقاد عنوة دون أي نوعٍ من أنواع الحرية في تقرير شكل وجودها ومستقبله بمعنى الارتقاء.

وبالتالي: لا وجود الذات هو بالمعنى الأدق لا وجود الفاعلية الحرة للذات وللذوات معاً. لأن مفهوم الذات ينطوي بالضرورة على الفاعلية الحرة. إن الفاعلية الحرة لا تقود بعد إلى الواقع الراقي إلا إذا أعلنت نفسها ذات تاريخ فاعلة لتحقيق الواقع الراقي.

فالذات الحرة لم تمت عندنا كما يعلن الغربي موت الذات لأنها لم تولد بعد، والذات الحرة لم تغب كما تغيب الآن في مجتمعات ما بعد الحداثة لأنها لم تحضر، ولسنا نعيش نهاية الذات الحرة لأنها لم تبدأ بعد.

غير أن وجود الذات الحرة، أي انتقالها من لا وجودها إلى وجودها عملية ذات مخاض عسير من جهة وانتصارها في الواقع هو ثمرة فاعليتها لانتصارها.

فليس هناك انفصال بين ولادتها وانتصارها، أي وجودها واقعياً. التنوير يعلن ضرورة ولادة الإنسان – الذات من أجل انتصارها في مجتمع الذوات. مجتمع الذوات – المجتمع الراقي هو مجتمع الذوات الحرة الصانعة لوجودها في حقل الوجود الحر.

ها نحن حددنا الواقع الراقي بوصفه واقع ولادة الإنسان – الذات ووجودها الحر. إنه النقيض المطلق لكل المركزيات التي تلتهم الإنسان الفرد وتحوّل البشر إلى قطيع.

الواقع المعيش عربياً صراع المركزيات المتشابهة، التي من المستحيل أن تنتج تجاوزاً للواقع نحو واقع أرقى.

فالارتقاء بالمعنى الدارويني للكلمة هو انتقال من الدنيء إلى الرفيع، من البسيط إلى المعقد. إن جميع المركزيات الحاضرة هي مركزيات مجتمع لم يرتق بالمعنى الدارويني والهيغلي والماركسي والكوندرسي. أو بأي معنى أخذناه حتى لو أخذنا بالمعنى الخلدوني. جميع المركزيات حاضرة في تشابه متصارع باستثناء مركزية الإنسان.

لقد انتصرت مركزية السلطة المستبدة ذات السمات العنفية الإمبراطورية القديمة دون أن تكون سلطة إمبراطوريات. إنها بوصفها سلطة منبتة لا علاقة لها بأرقى شكل للعقد الاجتماعي، وليس لديها الهاجس الإمبراطوري، لا تستطيع إلا أن تقف ضد الإنسان – الذات، أي ضد مركزية الإنسان في أرقى أشكاله المعاصرة من جهة وفي أدنى تعبيراته الحداثوية من جهة ثانية.

مركزيتها المصاحبة لقمعها – تتحول إلى قوة تدميرية لأي ملامح للتطور القانوني – الطبيعي، الذي قد يشكل أي نوع من أنواع الخطر على استمرار وجودها غير الضروري.

ولأن الخطر الأكبر على استمرار هذا الوجود لسلطة إمبراطورية دون إمبراطورية هو الإنسان – الذات، فإن الدريئة الأرس لإطلاقها النار عليها هي الإنسان – الذات بكل ما يحمله هذا المفهوم من تعينات الحرية والتحرر والمواطنة والحق والمعرفة.

وأكثر المفارقات مدعاة للدهشة التاريخية هي أن البلدان التي انتصرت فيها مركزية الإنسان منذ النهضة الأوربية مروراً بانتصار البرجوازية الساحق وتعيناتها الامبريالية والعلومية هي البلدان التي تحرس مركزية السلطة العربية. نقول مدعاة للدهشة ونحن على فهم ودراية بالأسباب. والقوة التي تستمدها هذه السُلط من رعاعها عامل مهم من عوامل استمرار وجودها اللاعقلاني – اللاضروري.

وليس تنويراً ذاك الذي لا ينطلق من الدعوة إلى انتصار مركزية الإنسان – الذات الحرة على مركزية السلطة اللابسة الثوب الإمبراطوري وهي مغتربة عن العالم.

في مقابل مركزية السلطة هذه راحت تظهر مرة أخرى سلطة مركزية الله والتي تخوض الآن صراعاً دموياً مع السلطة.

إن سلطة مركزية الله المتعينة بكل الأشكال السياسية ذات الأيديولوجيا الدينية وبخاصة الأيديولوجيا الأصولية – الإسلامية تخوض صراعاً غير مثمر مع مركزية السلطة المستبدة ذات الإهاب الإمبراطوري والسلوك الإمبراطوري في الداخل، وسلوك التبعية المطلق للخارج الأوربي – الأمريكي.

أقول تخوض صراعاً غير مثمر لأننا أمام مركزية تيارين متشابهين، تشتركان في نفي مركزية الإنسان – الذات الحرة، من جهة وفي علاقتهما بالواقع من جهة ثانية.

فليس هناك فرق شاسع بين من يريد أن يؤبد الواقع وبين من يريد أن يعود إلى الوراء، فكلاهما ضد حركة الارتقاء التاريخي.

والصراع بين هذين الحدين المتشابهين أدى وقد يؤدي إلى كارثة الركود التاريخي حيث قوى الصراع تستنفد قوى المجتمع فيما ليس ينتج إلا العنف المتبادل الذي يزيد من صعوبة ولادة البديل – الذات الحرة. لاسيما وأن مركزية الإله بوصفها أيديولوجيا أطاحت بالتعاون مع السلط المتأخرة تاريخاً ذات الطابع الهمجي بالتعايش الديني السلمي بين الطوائف والأديان، لقد أطلت أقبح الصراعات الدينية بوجهها في العراق ومصر وسوريا واليمن وغيرها من البلدان، فإذا الطائفية تنتج القطيع والوعي القطيعي، والأكباش الغارقة في غفوتها تختال مزهوة بانتصار تخلفها.

إن التنوير بما هو تجاوز لمركزية الحاكم المستبد المسخرة فإنه أيضاً هو وعي متجاوز لمركزية الإله المسلح بالقطيع – وهو يطرح الذات الحرة – مركزاً للحياة، فإنه لا يطرحها إلا في حقل مفهومين أساسيين المواطنة الحرة والعلمانية نظام حكم.

أجل: لا تنوير دون وعي بالمواطنة الحرة، وكيف تكون ذات حية تخوض الصراع في معركة الحياة دون أن تكون ذات – مواطنة كلية سائدة. لا تنوير دون العلمانية وتحققهما في نظام الدولة – نظام الحكم دستورياً.

وبالتالي ليس التنوير خطاباً أخلاقياً مشيخياً أو رسولياً، إنه وعي يبحث عن سبل تحققه في المجتمع والدولة والسلطة عبر تحول ها الوعي إلى إرادة فاعلة لجماعات تنشأ في قلب الركود التاريخي لتكنسه.

بل إن المواطنة والعلمانية – حالين من حالات التنوير – يقتحمان مركزين مجتمعين تقليدين مازالا عصيين تاريخياً على الزوال بحكم السلطة المستبدة، الطائفة – المركز، والاثنية – المركز.

فالوعي الطائفي بالهوية، وتحويل الهوية إلى مركز مغلق ليس إلا المعلم الأشد سطوعاً على الركود المجتمعي.

فماهية الوعي هنا لا تنتمي إلى فضاء الإنسان – الذات المتحررة من إسارها المجتمعي حتى ولو انتمى الطائفي صورياً «للدولة».

فالعالم أضيق من أن يكون عالم الانتماءات الحرة، حتى لتبدو الفجيعة في أجلى صورها حين يشهد المجتمع انتماءات نخب كانت لتوها قادرة على القول في فضاء الأيديولوجيات الكلية وإذا هي عائدة إلى كهفها الطائفي بل إن عالم المدينة الذي من شأنه أن يدمر العلاقات القطيعية بكل ما تمتلكه من قيم قائمة على درجة القرابة بالعائلة والمذهب – إن عالم المدينة المدجج بأعلى أساليب التقنية وأخلاق المهنة وقيم المؤسسة فشل في انجاز مهمته.

 بل إن الثقافة العالمية الوافدة بما تنطوي عليه من تحرر فردي – ذاتي لم تحدث تأثيراً في وعي بعض الجماعات ذات الهويات الضيقة في الوطن العربي.

وهذا يعود إلى أن مركزية السلطة المستبدة الباحثة دائماً عن عصبيات ضيقة تعيد إنتاج هذا الوعي وتعمل جاهدة على استمراره، كي يتحول إلى جزء من عصبيتها، كما أنها العصبية الدينية أو الطائفية أو العائلية وهي تفتقد حال الموطنة – الحال الحامية للأمن الشخصي تولي وجهها شطر الجماعة الدموية.

وقس على ذلك مركزية الأثنوس الذي عاد مرة أخرى ليخرج من فضائه الديني – قبل ظهور مركزية الله – ليعود إلى فضائه الخاص بوصفه نقيضاً لأثنوسٍ آخر يرى فيه معتدياً على وجوده.

وشيئاً فشيئاً تحولت مركزية الأثنوس الأقلوي إلى شخصية الأقليات.

إن التنوير وهو يطرح المواطنة والعلمانية كأبرز حالين من حالاته فلأنه يريد تحقيق فضاءً أوسع للحياة، وأي فضاء أوسع من المواطنة في دولة علمانية تحقق انتصار مركزية الإنسان – الذات الحرة.

ومن الجدير بالإشارة إلى إننا أمام تداخل كبير بين هذه المركزيات المناهضة لمركزية الإنسان – الذات، إذ إن السلطة – المركز ذات الطبيعة الإمبراطورية – المستبدة، وسلطة مركزية الإله المسلح، ترتديان إهاباً أيديولوجيا، وقِس على ذلك مركزية الطائفة – العائلة، القطيع – التي تعتقد بأنها عصبية مأمونة الجانب وتغلفها بخطاب ساذج.

والتنوير إذاً يطرح ما يجب أن يكون – الواقع الراقي – الواقع الذي يغذ السير نحو الارتقاء لولادة الإنسان – الذات مركزاً للعالم متحرراً من كل مركزياته القطيعية والشوفينية والنائمة في حضن كهوف التاريخ الماضي. إن التنوير هذا هو وعي كلي، وليس بمقدوره أن يتساهل مراءاة لأي حصن من الحصون المغلقة الجاثمة على أرض راكدة.

إنه وهو يعلنها – جميعها – موضوعاً لسهامه، ودريئة لخطابه فلكي يخلق الوعي الكلي بالبديل الأرقى.

وليس هناك إلا معيار واحد للارتقاء في فلسفة التنوير حضور الذات التي تقرر مصيرها الذاتي عبر تقرير مجتمعها الراقي.

ولهذا ففلسفة التنوير هي فلسفة الفعل السياسي بالضرورة. بل إن وعي السياسة – فعلاً تنويرياً – هو الذي يضع السياسة في مسارها فعلاً تغييرياً. وحدها السياسة المتكئة على فلسفة التنوير تتحول إلى نقيض حقيقي وتحوّل الصراع إلى صراع المتناقضات المثمرة. إنها الصراع البديل عن صراع المتشابهين والمتشابهات غير المثمرة، ولهذا فالتنوير ليس طرفاً مع أي مركزية متخلفة بل هو النقيض المطلق لها، ولهذا فإن معركة التنوير طويلة الأمد، وهذا الذي يفسر حضوره الدائم، رغم هزائمه المتكررة كما تبدو لبعضهم.

لقد أبرزنا التنوير بوصفه وعياً تغييرياً هادفاً لم يجب أن يكون في إطار مقارعته الهويات المركزية المغلقة النافية لبعضها البعض والمتحالفة معاً. وأشكال وعيها المتطابقة مع انغلاقها.

غير أن معركة التنوير في ساحة الوعي اعقد واشد، لأن من شيمة الوعي العناد، والوعي المعند في شروط الركود التاريخي يصبح أكثر عناداً وإقصاءً للمختلف.

كما أن الوعي بوصفه سلطة إذ يستمد زيادة في قوة سلطته من السلطة المتعينة مادياً يتحول إلى عالم متوحش.

فالسلطة – المركز المتقوقعة على ذاتها تشه جهازها الأيديولوجي المزيف للواقع والمجمل لسلوكها عبر قطع العلاقة بين اللغة والواقع، وتوسل البلاغة الركيكة وسيلة لخطابها المنبت. ومع ازدياد نباح كلاب حراسة السلطان الأيديولوجيين المسيطرين على أدوات الاتصال وتعالي ضجيجهن فإن صوت التنوير يجهد لكي يصل أسماع الناس.

أيديولوجيا السلطة اللابس إهاب المصالحة الوطنية فيما تفوح من جسدها رائحة غريزة التدمير تجعل من خطاب التنوير عدواً وطنياً عدواً للتاريخ، عدواً للإله. ويشترك معها في كرهٍ كهذا خطاب مركزية الإله. فيجد خطاب التنوير نفسه أمام عدوين من الوعي الزائف.

ففي الوقت الذي يظهر فيه المصلح الديني الذي يعلن أنه الإله نفسه قد نصب الإنسان سيداً على هذا العالم والقيام بعملية إصلاح تأويلية استجابة لأسئلة الأرض ينبري الوعي الساكن والنكوصي لمواجهته على أنه مجدف وحاقد وزنديق ويشاركه في حكم كهذا فقيه السلطان – أي السلطة.

إن التنوير وهو يواجه سلطة الوعي السائد المناقض للواقع وللمعقولية الناتجة عن هذا الواقع بوعي واقعي ومعقولية واقعية يحول العلم إلى وعي علمي بمعزل عن معرفة نظريات الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والعلوم الإنسانية التي تتطلب تخصصاً بالعلم.

فالوعي العلمي يجعل الوعي مشدوداً إلى الأرض والمجتمع والإنسان دون اتكاءً على ما هو خارج هذا كله، وبمعزل عن التصديق والشك والمناقشات ذات الطابع المستند إلى وعي علمي بالعالم ونسبية الحقائق الموضوعية.

لا يمكن للتنوير اليوم إذا ما أراد أن يعلن عن نفسه مدافعاً عن مركزية الإنسان – الذات أن يتجاهل مرجع الإنسان – الذات على أنه مرجع المعرفة في علاقتها بالواقع.

وإن من شأن ذلك أن يحيل أسس الوعي الصنمي والأفكار الصنمية المسبقة التي يتحصن خلفها النكوصيون والساعون لتأبيد الواقع.

فمعركة التنوير معركة الأوثان النائمة والمستيقظة الساكنة العقول الكهفية بكل عنفها وعدوانيتها وكرهها لمنطق الحياة.

وما لم يكن في الحسبان – حسبان التنوير – أن يجد نفسه في قلب معركةٍ يدافع فيها عن الحياة الروحية للإنسان في عالمنا.

يدافع فيها عن الإبداع الفني والشعري والأدبي والمسرحي والروائي، عن الإبداع الموسيقي، في وقت راحت فيها الأصوات النكوصية تتعالى ضد هذه القيم الروحية بحجج ما أنزال الله بها من سلطان.

فالإبداع يزدهر في حقل الحرية وما استخدام «ولكن»، «وضبط»، «والتزام» وما شابه ذلك من أحرف وكلمات إلا مصادرة على حرية الإبداع الإنساني.

وإذا كان الفن في حالة تردٍ إبداعي فهذا ليس مرده إلى الفن نفسه، بل إلى الركود التاريخي الذي أنتج فناً كهذا. وفساد الذوق ذاته هو صورة عن فساد هذا العالم.

انتم كما يولى عليكم وليس كما انتم يولى عليكم، ذلك أن السلط المنحطة بكل أشكالها هي التي تعمم انحطاطها وتجعل منه صفاتٍ للعالم المعيش. فتعمم فسادها وعنفها وانحطاط ذوقها وقيمها.

وفلسفة التنوير فلسفة تمرد على هذا كله ومعاندة لهيمنة انحطاط السلط. أجل لما كان التنوير وعياً بضرورة ولادة الإنسان – الذات الفاعلة الحرة، فهو معركة انتصار الإنسان الذي يرفع الرغيف بيد وراية الحية باليد الأخرى.

إذ لا محال لفصل الفقر المادي عن الفقر الروحي ولا مجال لفصل انتصار الجسد عن انتصار الروح، حيث الروح جسدٌ والجسد روح. التنوير ضد مؤامرة الفصل التعسفي للإنسان. بقي أن أقول: إذا كان التنوير دعوة لولادة الإنسان – الذات الحرة – الفاعلة فإن الإنسان – الذات هنا هو كل إنسان مذكراً كان أم أنثى.

فالتنوير يجعل المساواة مطلقة بين الذكر والأنثى في حقل الإنسان – الذات.

ولست أزيد وضوحاً على أمرٍ كهذا واضحٍ بذاته.

التنوير ليس أيديولوجيا كما يظن البعض إنه معنى الحياة، وإستراتيجية لتحقيق هذا المعنى. بل إن أس ثورات الربيع العربي هو ذاته أس التنوير، الربيع الذي تحاول القوى المنهارة تاريخيا أن تحوله إلى صراع المتشابهين الذي تحدثت عنه أعلاه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني