fbpx

لقاء صحفي مع الأديب السُّوري د. موسى رحوم عبَّاس

0 511

س1- اختصاصك في علم النفس العيادي (العلاجي) يوفر لك كأديب وشاعر عوالم تتعلق بفضاءات عالم النفس البشرية. كيف انعكس هذا العالم في إبداعك الشعري والأدبي؟. هل يمكننا القول إن علاقة تجمع بينهما؟ هل يمكنك أن تشرح الأمر لقرائنا؟.

في البداية اسمح لي أستاذ أسامة أن أرحب بكم وبنينار برس. عن علاقة الاختصاص في علم النفس العيادي بالأدب كثيراً ما أواجه بهذا التساؤل الذي يقترب من الاستغراب، فأجيب عنه في محورين:

الأول: في الجانب اللغوي وأدوات الكتابة وعلوم العربية وهذا ما عملت عليه من خلال الاختصاص في الآداب واللغة العربية، فقد تخرجت في جامعة حلب قسم اللغة العربية، وأحسب أنني عاشق للغتنا، وأحاول تطوير أدواتي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

الثاني: الجانب(المنتج) الإبداعي: لا يمكننا أن نفصل النفس البشرية وما يدور حولها عن الأدب، فالأدب وسيلة للتعبير عن الحياة، والإنسان هو مركز الحياة بمشكلاته ودوافعه وصراعاته، بل أستغرب كيف يقدم كاتب ما على تأليف رواية أو قصة أو مسرحية أبطالها بشر بعقدهم واضطراباتهم وغرائزهم، وهو شبه أمي في علم النفس بكل تنوعاته الاجتماعي والجنائي والتطوري والمرضي… فتشيخوف، ويوسف إدريس، وعبد السلام العجيلي، والسير آرثر كونان (مبتكر شخصية شارلوك هولمز) هؤلاء قاوم أدبهم النسيان؛ لأنهم سبروا أغوار النفس البشرية ونقاط ضعفها وقوتها؛ فجاء منتجهم الإبداعي قوياً مؤثراً وعميقاً، وفيودور دوستويفسكي القاص والروائي الروسي صاحب الجريمة والعقاب غاص في أعماق شخوصه فتحولوا إلى شخصيات بلحم ودم نكاد نراهم بيننا يتجولون، حتى شكسبير تقدم بمسرحياته على اكتشافات علم النفس الحديث فأبدع لنا شخصية مركبة ومعقدة هي “هاملت”! أريد أن أقول إنَّ الرابط بين الأدب وعلم النفس هو سلوكنا، في روايتي “بَيْلان”، التي أدرجت على القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2012م لولا علم النفس لما استطعت الإمساك بخيوطها وصرت أعرف شخوصها كأنهم من عائلتي، رسمت خطوط حياتهم بناء على دراسة كل شخصية بعقدها واضطراباتها وجاءت سلوكياتهم وردود أفعالهم منسجمة مع هذه الدراسة، وهذا ما فعلته في قصصي القصيرة ومنها “قديسون ولصوص” و”الرجل ذو الشعر الرمادي” و”صراة عجاج” والعشرات غيرها، ولا أدعي أنني نجحت تماماً، لكنني حاولت!

س2 – شعرك يذهب بقارئه إلى عوالم ساحرة، فبالرغم من بساطة الجملة الشعرية وجمالها لديك، إلا أنها تبني عبر تدفقها في القصيدة الواحدة عالماً من اكتشاف الذات في الأشياء الصغيرة المعتادة. ما علاقة شعرك بطفولتك وعوالمها الفراتية؟.

الحاج رحوم العباس والدي – يرحمه الله – استمدَّ اسمه من بئر “رحوم” في بادية الرُّصافة على عادة البدو في إطلاق أسماء الأماكن التي ولدوا فيها أو الشهور… على المواليد، أي إنني نصف بدوي، تعلم أهلي الزراعة لاحقاً، وولدتُ على ضفاف الفرات في قرية كانت وادعة هي “كسرة مريبط” التي ابتلعها النهر؛ لينعم آخرون بالضوء وسد الفرات، سيضحك مني أبناء قريتي إذا قلت كانت طفولة سعيدة، لكنها كانت بسيطة وبيوتنا كانت بلا أسيجة، لهذا يمكننا أن نطلق أبصارنا إلى اللاحدود، الشمس الحادة تظهر لنا تفاصيل ما نراه ولو كان بعيداً، نمْقُتُ الغموض والظلام، ننام على أساطير السَّعالي والغيلان في حكايا الجدات، ونصحو مع أول شعاع شمس ينسكب على وسائدنا الصغيرة، في الشِّعر لا أظن أنني ابتعدت عن ذلك، أكتب نصوصي، لأتنفس من خلالها، لا أتقن الشعارات الكبيرة، أنظر إلى أسئلة الوجود الكبرى بعيني طفل تدهشه منعرجات الحياة، وأعرف أنني لن أغير العالم، فمن أكتب لهم نصفهم أُمِّيون، ومعظمهم يركض خلف الرَّغيف المغمَّس بالدم والعرق، وقد لا يناله وافراً! أتعامل مع اللغة بمعايير الصَّاغة لا مكاييلَ البَاعة، كما قلتُ ذات يوم، هكذا تولد القصيدة ساخنة مثل رغيف “الصَّاج” في قريتي الغريقة!

س3 – ما يحدث في سوريا منذ عشر سنوات هو إعادة إنتاج وعي السوري بوطنه وحياته وعيشه. وهذا الإنسان اكتوى بنيران الحرب والجوع والخوف والرعب. كم نحتاج من زمن لاستعادة توازن هذا الإنسان مع نفسه ومجتمعه؟ وكيف يمكن التغلب على آثار هذه الحرب المدمرة للنفس البشرية؟. كيف نعيد بناءها؟.

دعني أعد لما قبل هذا صديقي، بعيد الاستقلال مرت فترة واعدة، لكنها ومضةٌ وانتهت، للأسف، لم نتمكن بعد رحيل المحتل من تكوين “الدولة الوطنية” التي تخلق “المواطنة” لكل مواطنيها دون النظر لانتماءاتهم القومية أو الدينية أو المذهبية، رغم الشعارات العريضة التي تحولت للافتات عن الوحدة والحرية والاشتراكية، وعاش جزءٌ من مواطنينا الغبن والقهر، أتذكر أن بعض مواطنينا كان يمنع من الغناء بلغته الأصلية، أو يقيم عرساً على طريقته وتقاليده، والأحزاب يسارها ويمينها فشلت في ترجمة شعاراتها على أرض الواقع، فتحولت لظواهر صوتية، وما وصلنا إليه في العقد الأخير نتيجة لهذا، ومآل طبيعي له، ما نشهده ليس حرباً بل كارثة كبرى، تفوقت على هيروشيما (140 ألف ضحية) وناغازاكي (74 ألف ضحية) فحوالي 3 ملايين طفل لا يعرفون طريق المدرسة، وهم من سيكونون شبابنا بعد عشر سنوات، جيل من الأميين والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة! هذه كارثة بكل ما تعنيه المفردة، مئات الألوف من الأرامل والأيتام، عمالة الأطفال، المخدرات…. لكن! هل الطريق مسدودة؟ أعتقد، لا والتاريخ يعطينا الأمثلة، فألمانيا واليابان تم تدميرهما تماماً، فانتصر المهزوم على المنتصر، هذه حرب لا منتصر فيها، الكل فيها خاسر وموجوع ومتألم، لست متشائماً تماماً، ستنتهي الحرب ذات يوم، وتشرق الشمس على بلادنا، وعلينا أن نعي دروس التاريخ لا أن نجعل منها عباءة لمظلومياتنا، وغطاء لأحقادنا وتصفية حساباتنا الضيقة في ثنائيات داخل/خارج وخائن/وطني وننبذ تعصبنا الذي يسد منافذ الوعي والحرية. 

س4 – القصة تكثيف إبداعي للحظة زمنية يعيشها الإنسان، هل القصة السورية في زمن الحرب أو قبله، استطاعت التقاط صراعات هذا الإنسان الداخلية والاجتماعية والسياسية؟ أدبك أين يقع بالنسبة لذلك؟.

السرد عموماً أكثر طواعية من الشعر، وفيه مساحة للغوص تحت السطح، وتهشيم سطح البحيرة الجامدة، ألم يقل إدوارد سعيد: “النصوص الأدبية في أكثر أشكالها مادية مشتبكة بالظرف والزمان والمكان” والقصة السورية بل والرواية كانت ابنة شرعية – غالباً – لمجتمعها، ويُحْسَبُ للأديب السوري عموماً التصاقه بقضايا مجتمعه، قبل الحرب وأثنائها، فقد عبر العجيلي، وهاني الراهب، وزكريا تامر، ووليد إخلاصي، وفارس زرزور، وخيري الذهبي، وإبراهيم الخليل، وصبحي الدسوقي، ومحمد الحاج صالح، وعايد السراج… وغيرهم عن المجتمع السُّوري منذ القرن الماضي وتناولوا النقاط الساخنة في صراعات طبقاته وعلاقة السلطة به، مع اختلاف طريقة كل منهم وأسلوبه، وفي الحرب كان الأمر أكثر حدة، تمايزت مواقفهم، بين العميق والهادئ والصارخ والرمادي وأدب “إعلام التعبئة” أيضاً، أظن أن الناقد والأديب نبيل سليمان ذكر حوالي أربعمائة (الرقم من الذاكرة) عمل إبداعي بين قصة ورواية وشعر…. أنتجت في الحرب، طوفان أدبي إذا صح القول، اطلعت على جزء منه قد يكون صغيراً، لكنني أقول إنَّ السوريين عبروا بأدبهم عن مخاوفهم وحبهم لبلادهم، كل على طريقته، وفلسفته في الحياة، وموقفه الأيديولوجي أحياناً، برزت أعمال كثيرين منهم فواز حداد، خيري الذهبي، هيفاء بيطار، شهلا العجيلي، جان دوست، مازن أكثم سليمان، إبراهيم الجبين، خليل الرز، أحمد خميس، يوسف دعيس، ماجد رشيد العويد، أيمن الناصر… وعشرات غيرهم أعتذر ممن لم تسعفني الذاكرة باسمه، وإذا كان علي أن أذكر تجربتي المتواضعة فقد أصدرت مجموعتين قصصيتين باللغة العربية، وواحدة باللغة الإنجليزية ترجمها الصديق الأستاذ الدكتور موسى الحالول والدكتورة سناء الظاهر، المجموعتان هما: بروق على ثقوب سوداء، العبور إلى مَدْين، تناولت فيهما الآثار غير المادية للحرب، أي رصدت ذلك الدمار النفسي الذي طاول كل شرائح المجتمع وتلك الجروح النفسية الغائرة التي تركتها الحرب في ضمائرنا، وكنت واحداً من أبطالي موجوعاً ومقهوراً أحاول التنفس في بيئة خانقة محكومة بالانتظار والخوف، وليس سراً أنني وظفت علم النفس في نصوصي دون أن أغفل عن المتعة في الفن، والجمال في اللغة وهو غاية الأدب ووسيلته، ولا أعلم إلى أي حد نجحت في ذلك.

وفي الختام، صدَّرت كتابي” العبور إلى مدين” بقول لفريدرك نيتشه وقول لزرادشت: ” اكتب بدمك؛ لتعلم أنَّ الدم روح، وليس بالسهل أن يفهم الإنسان دما غريبا” 

ترى هل كتبنا بدمنا ليفهمنا الآخرون؟! الآخرون هم من يمتلك الإجابة!

ومازال بطلُ روايتي “بيْلان” يصرخ بنا بعبارته الأخيرة: “لا تباعد بين أصابعك؛ فأنت تقبض على حفنة التراب الأخيرة”

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني