
لا لإلغاء الليرة السورية واستبدالها بالدينار مثلاً.. منافع الاستبدال ومضاره
تمهيد:
(هذه استكمالاً لخاطرة نُشرت منذ عدة أيام، مضمونها الاعتراض على إلغاء الليرة الآن. أما هذه فتقول لماذا قلنا لا).
لا توجد منافع ملموسة من إلغاء الليرة في أي وقت، وبالأخص إذا كان الاقتصاد منهاراً. وربما المنفعة الوحيدة الظاهرة هي فائدة معنوية مؤقتة تظهر أن أصحاب الأمر قد قاموا بمحاولة حل المشكلة وألبسوا المريض ثوباً جديداً وأعطوه حبة مسكنة للألم. أما مضار هذا الإلغاء التام واستبدال الليرة بالدينار مثلاً، فهي كثيرة وسوف نعددها في إحدى الفقرات أدناه.
أولاً: السبب
السبب المباشر لفكرة إلغاء الليرة كلها واستبدالها بعملة مثل الدينار هو تدهور سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية، وارتفاع التضخم إلى مستويات مرعبة. ولهذا كثر تضارب الأنباء المُسرّبة من أجل استقرار الليرة، ربما بصورة مقصودة كنوع من جسّ النبض. وما نُشر من تصريحات منسوبة إلى بعض الوزراء عن نية الحكومة الإلغاء، ثم الأنباء بالنفي من قبل نفس المسؤولين، قد ساهم في إثارة بلبلة مؤلمة في سعر صرف الليرة أمام الدولار وتذبذب واسع في أسعار السلع والخدمات خلال شهري نيسان وأيار 2025 في ظل جمود اقتصادي مرعب.
ثانياً: لماذا سلامة العملة مهمة
شخصياً، ليس لدي مسبقاً موقف عقائدي من إلغاء الليرة أو الإبقاء عليها سوى الصالح العام بما فيها مصلحتي الخاصة. ولكني مع إصلاح السياسات النقدية، على الأقل، التي تؤدي إلى تحسّن وضع الاقتصاد وبالتالي تحسن سعر صرف الليرة.
إن الليرة السورية هي أحد مكونات استقلال الوطن ورمز عزته. ولهذا فإن كل الدول تكافح للحفاظ على متانة العملة الوطنية كجزء من جهد التنمية وشعور الافتخار الوطني. ولكن القصة أبعد من ذلك:
صفات العملة:
العملة، أيا كانت، هي ليست إلا: 1- وسيلة لتسهيل تبادل السلع والخدمات، و2- مخزناً للقيمة، و3- أداة للحساب. وهذه الصفات هي التي تجعل أي عملة مقبولة محلياً وعالمياً أم لا. فإذا فقدت إحدى صفاتها، فهنالك مشكلة حقيقية كما هو حال الليرة في الصفتين 1 و2 أعلاه. وهذا يقود أيضاً إلى الفكرة التالية أدناه:
العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة:
هي تعبير عن كيفية الاصطفاء/ الإلغاء الطبيعي قبل اتخاذ القرار الإداري من قبل السلطة النقدية. لا تحمل العملة قيمة خاصة بها إلا إذا كانت مصنوعة من معدن/مادة لها قيمة سوقية مستقلة عن القيمة الاسمية للعملة. فلو كانت الليرة السورية من معدن الذهب عندها تحمل قيمة المعدن والقيمة الاسمية عند صكّها. فإذا صدف وارتفعت أسعار الذهب مثلاً فإن الليرة الذهبية تختفي بسبب اكتناز الناس للمعدن الذي فيها، ويلجؤون للتعامل بالعملة التي تحتوي معدناً أرخص مثل الفضة. ولذا يُقال إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة. وهنا نقول إن الليرة لم تحظَ بهذا الشرف من يوم ولادتها، وبدأت ورقية ولا تزال.
العملة الورقية:
لهذا ظهرت العملة الورقية منذ نحو 150 عاماً لتجنب تذبذب أسعار معدن العملات المعدنية حينها. ثم أصبحت الورقية العملة السائدة في العالم كحل لهذا التذبذب لرخص قيمة الورق نسبياً. وعند الانهيار السريع الذي حصل لليرة عام 2024، قبل وبعد سقوط نظام الأسد بقليل، أصبحت قيمة الورق كأنها أعلى من القيمة الاسمية المطبوعة عليه، مما صعّب حملها من قبل الأفراد. وأصبح معظم السوريين يهربون من الليرة إلى الدولار أو الليرة التركية أو أي عملة أخرى مستقرة للحفاظ على مدخراتهم أو لتسهيل تعاملهم في الأسواق.
ثالثاً: لمحة عن تاريخ الليرة السورية
أُعلنت الليرة السورية عملة المملكة السورية العربية عندما كان الملك فيصل حاكماً لسورية عام 1920 (مع بعض التسميات السائدة حينها)، بدلاً من الليرة العثمانية. وعندما احتلت فرنسا سورية، كلفت بنك سورية ولبنان عام 1924 ليتكفل بإصدار وإدارة العملة السورية إلى جانب الليرة اللبنانية، حتى قامت الدولة السورية بعد الاستقلال بفك ارتباطها مع الفرنك الفرنسي والليرة اللبنانية، وأصبح البنك المركزي السوري مسؤولاً عنها.
ومع الزمن والأحداث تغيّر سعر صرف الليرة في سوق الصرف الحر. ويُقال إن أفضل السنوات كانت عام 1938 وفرنسا كانت لا تزال هي المحتلة. وبعدها بدأ السعر يتدهور إلى مستويات متدنية. وبالطبع تراجع سعر الصرف مع الزمن تدريجياً، ولكن متانة الاقتصاد وحرية حركة الليرة بقيت مقبولة حتى عام 1984 حيث كان السعر نحو 4 ليرات للدولار الواحد. وعندما اشتد الصراع بين حافظ ورفعت الأسد ونهبوا البنك المركزي وانهار الاقتصاد السوري، عندها أصبح الدولار يعادل 50 ليرة. وهذه أسوأ مرحلة بسعر الصرف مرت بها الليرة حتى تاريخه.
والكارثة المستمرة زادت مع انطلاقة الثورة السورية عام 2011، إذ بدأت العملة بالانهيار حتى وصل سعر الدولار إلى نحو 1600 ليرة عام 2016.
وبعد توقف الأعمال الحربية بين الثوار ونظام الأسد بدءاً من عام 2018، انهارت الليرة فعلياً حتى وصل سعر السوق السوداء إلى نحو 25000 ليرة للدولار عام 2024، مصحوبة بمعدل تضخم تجاوز 500 بالمائة. فعلاً إنه انهيار مأساوي.
عندما سقط نظام الأسد انتعشت الآمال بتحسّن وضع الليرة، إلا أن هذه الآمال تلاشت بسبب استمرار العقوبات الدولية، وخاصة تلك المتعلقة بحرية الأموال العامة والمدفوعات وتحويلات المغتربين. ومع أن الحكومة الانتقالية أزالت كثيراً من القيود الداخلية على العملة، إلا أنها بقيت منهارة بسبب توقف عجلة الاقتصاد.
وهنا لجأت الحكومة الانتقالية عام 2025 إلى استخدام أسلوب الأوامر الإدارية بقصد تحسين سعر الصرف في السوق الداخلية، وذلك من خلال تجفيف السيولة من الليرة قصداً. الأمر الذي أدى إلى شيوع سعر صرف في السوق السوداء يصل إلى نحو 9000 ليرة فقط للدولار خلال الربع الأول من العام. وهنا ضجّ كثير من الناس بشأن هذا السعر الوهمي المصطنع، خاصة في ظل استمرار معدل التضخم المرتفع. فكانت الخسارة المادية مضاعفة لمن يتعامل بالدولار ولمن هم محدودو الدخل في مواجهة هذه الأسعار أيضاً.
رابعاً: طباعة العملة لا تعني الإلغاء
طباعة الليرة السورية بأوراق نقدية جديدة وصور جديدة بدلاً من صور حافظ وبشار، وكذلك بقصد استبدال الأوراق التالفة أو المزوّرة، هو أمر طبيعي وعادي ويجب أن يتم دورياً بدون ضجة. ولكن ضعف المعلومات يجعل الناس تنشط في آرائها. وهذا عكس ما نقصده بالإلغاء الكلي للعملة الحالية وإصدار عملة جديدة مختلفة كلياً.
خامساً: مصيبة سعر صرف الليرة
المصيبة صناعة حكومية بحتة
سعر الصرف يتحدد عادة بعوامل عدة، أهمها كمية الاحتياطي من الذهب والنقد في المصرف المركزي الذي يسند الليرة، وسهولة وحرية حركة الأموال داخل البلد وخارجه، وقوة ومتانة الاقتصاد. وأخيراً نجاعة الإدارات الحكومية، وخاصة المصرف المركزي ووزارة المالية.
تدور مشكلة الليرة السورية، بل وتنبع، من تدهور سعر الصرف مقابل العملات الأخرى. والمصيبة ليست في تراجع سعر الصرف بحد ذاته، فكل عملات العالم تواجه هذا التراجع التدريجي، ولكن بهدوء ونِسَب صغيرة.
أما الليرة السورية فقد استمرت بالتراجع التدريجي لسعر الصرف والقوة الشرائية بهدوء حتى عام 1984 عندما تدهورت جداً.
مصيبة الليرة السورية أنه فعلياً لم توجد دولة في سورية، منذ انقلاب حافظ الأسد، تحترم قوانينها ناهيك عن قوانين العالم. الليرة هنا ليست إلا انعكاساً صادقاً لواقع أسود في الاقتصاد وفي انعدام نجاعة الإدارة الحكومية. وتراجع سعر الصرف من ربع ليرة (0.25) لكل دولار إلى 250000 ليرة لكل دولار هو المصيبة بعينها لأنه يعني تلاشي الدولة فعلياً.
ففي عامي 2024 و2025، كان ولا يزال الاقتصاد جامداً أي واقفاً تقريباً. لا استثمارات ولا نمو. في ذات الوقت جمدت إدارات الحكومة كالمندهش، فاغرة فاهاً، لا تعرف ماذا تعمل. ثم أُلغيت هذه الإدارات عملياً من قبل الحكومة الانتقالية من خلال إفراغها من كوادرها وإغلاق أبوابها لفترة طويلة، في ذات الوقت كانت تبحث عن أساليب غير معهودة في الحكم والإدارة. مما وضع الحكومة عملياً خارج الزمان والمكان. واليوم تظهر الفوضى العارمة وضياع البوصلة بشكل مرعب، وكأنها بتخطيط مقصود.
وكما نعرف من الأخبار المشوشة، فإن الاحتياطي من الذهب في المصرف المركزي أصبح وضعه في خانة المجهول، ولا أحد يخبرنا ماذا جرى وما هي كمية الاحتياطي الموجودة فعلياً. وربما هناك حاسة سادسة سرّية بين سعر الصرف وبين كمية الاحتياطي المؤكد.
سادساً: شروط الإلغاء
يتطلب إلغاء الليرة السورية وإصدار عملة جديدة مختلفة كلياً بدلاً عنها عدة شروط عامة يجب أن تتحقق عند اتخاذ القرار، وفق أحد المحللين السوريين ذوي الصلة بالأمور الداخلية، من أهمها:
- تحقيق استقرار سياسي وأمني مستدام.
- إجراء إصلاحات اقتصادية شاملة.
- شفافية تامة في إدارة الشؤون المالية والنقدية.
سابعاً: آثار إلغاء الليرة (واستخدام الدينار مثلاً):
هذه الفقرة هي سبب العنوان هنا. لذا سوف نحاول تقصي هذه الآثار سلباً وإيجاباً بشكل تحليلي عام وليس بحثي، لأن هذه الورقة تهتم بالنتائج العامة للسياسات المؤسسية، وليس بالبحث النقدي أو المالي لتلك السياسات.
منافع إلغاء الليرة
كما ذكرت في البداية أعلاه، لا توجد منافع ملموسة من استبدال العملة في أي وقت، وبالأخص إذا كان الاقتصاد منهاراً.
أ. منفعة الإلغاء المباشرة: وربما المنفعة الوحيدة الظاهرة هي فائدة سياسية معنوية مؤقتة لتجربة عملة جديدة من الصفر والتخلص من سعر الصرف المزعج. وهي تُظهر أن أصحاب الأمر قد قاموا بمحاولة حل المشكلة وألبسوا المريض ثوباً جديداً وأعطوه حبة مسكنة للألم. وهذه المنفعة المعنوية مؤقتة، وسيرجع وضع الليرة إلى انعكاس الوضع الاقتصادي عليها.
ب. إظهار الجدارة الحكومية: ولهذا لا تُقدِم الدول على اتخاذ هذا الإجراء بسهولة إلا عندما يكون هناك استقرار سياسي حقيقي، بينما الحكومة غير قادرة على تحسين وضع عملتها من خلال الحزم النقدية والمالية بوضعها الراهن. عندها تلجأ إلى هذه الهزة العنيفة لخلخلة العوامل السلبية التي تعتقد أنها تتحكم بالوضع الكارثي. وكثير من الاتهامات تُوجَّه للفساد والفاسدين والأموال الساخنة والمهرّبة ودورها في زعزعة الليرة.
ج. التخلص من العملة المزورة: طبعاً هذا النفع مهم، ولكنه وقتي. فمن استطاع تزوير العملة القديمة وطرحها بالأسواق أو خارج الدولة، سوف يتم التخلص منها. ولكنها حالة مؤقتة، لأن هؤلاء لديهم القدرة على العودة إلى التزوير من جديد، بعد حين.
مضار إلغاء الليرة
مضار الإلغاء الاقتصادية والمالية والسياسية عديدة، سواء منها ما يأتي فوراً مع القرار، ومنها ما سيأتي لاحقاً عندما تهدأ المياه.
أ. تكلفة الإصدار للعملة الجديدة: وهذه التكلفة الإدارية، مهما كانت، لأنها متعلقة بالنقد ذاته، فهي تكلفة قليلة نسبياً مقارنة بالتكاليف الاقتصادية والمالية الأخرى، إذ إنها تتعلق بتصميم وطباعة العملة سواء داخل الدولة أو خارجها. والجانب الأهم في هذا هو إجراءات الاستبدال من خلال سحب وتجميع الليرة القديمة في المصارف المخوّلة بالاستبدال، وتوزيع مكانها العملة الجديدة، وكيفية احتساب المعادل بين الجديدة والقديمة. والتأكد من عدم التزوير وغيره.
ب. اضطراب الأسعار والمبادلات الداخلية: سوف يتعرض السوق والمتعاملون بالليرة إلى اضطراب شديد بسبب اختلاف أداة التسعير والحساب. وسوف تتوقف بعض الأعمال التجارية فعلاً حتى يستوعب الناس آلية العملة الجديدة وكيفية تسعير السلع والمواد الأولية فيها. وهذه الخسائر الاقتصادية مهمة جداً لأنها كبيرة. وربما في بعض الأحيان يتم التسعير خطأ بالمبالغة أو التقليل، فتتحقق الخسارة في الحالتين. بل هناك أجزاء من الوطن سوف يستغرق الأمر زمناً طويلاً حتى ينتقل العقل البشري من آلية العملة القديمة إلى الجديدة.
ج. اضطراب التبادل الخارجي: ريثما تستقر أسواق العملة الجديدة، فإن مبادلات التجارة الخارجية من استيراد وتصدير والمدفوعات وتحويلات المغتربين سوف تضطرب وتتعرض بعض الأطراف للخسارة لعدم معرفة أسعار الصرف الجديدة أو تقديرها بشكل غير صحيح.
د. ضرر شعور الاستقرار المزيّف: عندما يتم إلغاء العملة وبدء استخدام عملة الدينار مثلاً، سوف يسري شعور زائف بالاسترخاء بأن المشكلة الاقتصادية قد حُلّت، ولا داعي لسياسات جديدة. وأن السحر الكامن في العملة الجديدة سيتكفل بتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي. عندها ستذهب الحكومة إلى النوم المطمئن ولا تعالج المشاكل أو الاختلالات الهيكلية والوظيفية في الاقتصاد التي أدّت إلى انهيار العملة. وهذه ستكون مضارها شديدة في المرحلة القادمة.
هـ. اهتزاز الثقة السياسية: وهذه المضرة هي الأشد. مهما أصدرت الحكومة الانتقالية من تبريرات، فإن الحكم عليها هو أداء الأسواق وآراء الناس والتقييمات السرية والعلنية في الأسواق الدولية. وعلى الأغلب سيكون التقييم سلبياً في البداية، وربما لفترة طويلة عند كل هؤلاء. وهو يعني أن هذا الإلغاء هو مؤشر على فشل الدولة الحالية. نقطة آخر السطر.