كيف نحصّن انتفاضة السويداء السلمية
أي اشارة سلبيه صغيره لحراك أهلنا في السويداء تعني أنك مع نظام الديكتاتور. انتهى الاقتباس
التساؤل:
هل ما أكتبه نقديا حول انتفاضة السويداء المباركة يقع ضمن تصنيف الإشارة السلبية الصغيرة، كما يعتقد بعضهم الثوري؟.
بداية، وبعيداً عن التنظير، لقد قدمت حقائق الصراع المستمر منذ 2011، وبأشكاله المختلفة، خاصة الخَيار العسكري الطائفي، أكثر ما يكفي من الوقائع لاستخلاص الدروس؛ إذا كنا مؤمنين بقضايانا العادلة، وحريصين على ألا نجعل من تجدد حراك السوريين الثوري حلقات جديدة من مأساة الهزيمة!.
مخاطر التدخل الخارجي، الذي استجره النظام وغطته بعضه المعارضة، أولاً؛ ومخاطر قيام مشاريع إدارة ذاتية، تغطي موضوعيا على سلطات أمر واقع ومصالح خارجية، تشكل أحد أخطر عوامل تفشيل الدولة، ثانيا؛ وثالثا، وهو الأهم، ما تشكله عوامل ترابط وجود الاحتلال الخارجي مع استمرار وجود سلطات الأمر الواقع بغطاء إدارة ذاتية من بيئة تفشيل شاملة، تبرر وتسمح ببقاء سلطة النظام، وبالتالي منع تحقيق هدف ثورة 2011 المركزي (أو أية انتفاضة لاحقة) انتقال سياسي مركزي وتحول ديمقراطي. أما الدرس الرابع فيرتبط بطبيعة الوعي السياسي النخبوي المعارض، وما اتسم به من عجز عن فهم طبيعة مصالح وسياسات وعلاقات الدولة التي شاركت النظام بشكل غير مباشر في دفع الخيار العسكري الطائفي خلال مراحله المتعاقبة، وصولا إلى نهايته في ربيع 2020، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية! لقد قدمتُ دراسات شاملة توضح وجهة نظري، ومبرراتي، وأنا وفقاً لما أصل إليه من استنتاجات، لستُ من أنصار مشاريع إدارة ذاتية، تأتي في نفس سياق مشروع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا الأمريكي؟
لماذا؟ وما هي مشكلة السياق؟!.
السمة الأساسية لسياق التسوية السياسية الأمريكية المرتبط بالمرحلة الأخيرة من الخَيار العسكري، (التي انطلقت صيرورتها بعد إحكام الولايات المتحدة سيطرتها على مناطق داعش قبل نهاية 2019، وباتت مناطق الإدارة الذاتية، بالتزامن مع وصول دول الترويكا الضامنة إلى اتفاقيات هدنة دائمة في قمة 5 آذار بين الرئيسين التركي والروسي، وشكلت اعترافاً موضوعياً بوقائع الحصص التي فرضتها موازين قوى الحرب)، هي حصول تأهيل متزامن لسلطات الأمر الواقع، وفي مقدمتها سلطة النظام، بما يشرعن الحصص ومناطق النفوذ، ويحول وقائع الخيار العسكري التي تجسدها سلطات الأمر الواقع إلى حالة تفشيل سورية دائمة، بما يحقق مصالح العراب، وسلطات الأمر الواقع معا!.
عملياً، وفي إدراكنا لعوامل سياق التسوية السياسية، وضوء معرفتنا بما قد تواجهه إجراءات وخطوات بناء المشروع الذاتي من تحديات في ظل التنازع الحالي على السيطرة ومناطق النفوذ بين سلطات الأمر الواقع، وحرص سلطة النظام على انتزاع سيطرتها الشاملة، وتأكيد شرعيتها الوحيدة، لا يمكن أن تنجح جهود محلية سورية لتحقيق مشروع إدارة ذاتية، مستقلة ومفوضة، إلا تحت حماية، وبدعم واحدة من قوى الاحتلال، أو أكثر، وهو ما يحول مشروع إدارة ذاتية موضوعيا إلى قاعدة ارتكاز عسكرية لقوة احتلال أجنبية، شكلت مصالحها وسياساتها في جميع مراحل الخَيار العسكري المستمرة منذ 2011 عاملاً أساسياً في عدم حدوث انتقال سياسي وتحول ديمقراطي، كان كفيلاً حينئذ أن يجنب سوريا، والسوريين كل مآسي الحرب، وانا لا أعفي النظام من مسؤولياته، وقد كان خياره أيضا، ولم يكن الوحيد، لكن من مصلحتنا معرفة طبيعة مصالح وسياسات الولايات المتحدة التي جعلت انتصار خَيار النظام ممكنا، وواقعاً!.
والحال هكذا، وقبل حدوث انتقال سياسي في دمشق وإطلاق صيرورة التحول الديمقراطي على الصعيد السوري العام، وبمشاركة جميع السوريين دون استثناء أو إقصاء، وعلى أرضية المساواة في الحقوق والواجبات، لن يخرج منطق مشاريع الإدارة الذاتية، بغض النظر عن حسن النوايا، وطبيعة القيادات، عن سياق إجراءات وخطوات ثبيت عوامل التفشيل الذاتي والعام التي تجسدها سلطات الأمر الواقع، بما يحول سوريا إلى كيانات هشة، متصارعة، تتنافس سلطاتها، والعراب الخارجي، على مواقع السيطرة والنهب، وتقطع نهائيا أمل تحقق ما خرج السوريون من أجله عام 2011؛ وهو لا يختلف بالنتيجة والنتائج عن مشاريع دولة الانتداب الفرنسي لتقسيم سوريا سوى بالإخراج وعوامل السياق!.
ضمن هذا الإطار، من واجب الوعي السياسي النخبوي ان يبين للرأي العام أن ما يحصل من تناقضات بين مصالح وسياسات النظام وبين الولايات المتحدة في هذه المرحلة من التسوية السياسية المستمرة خطواتها منذ نهاية 2019 ليس امتدادا لصراع متواصل منذ 2011 كما زعمت دعايات المحورين، ولم يكن حول خيَارات السلام والحرب – التي قسمت السوريين إلى جبهات متصارعة، مزقت جسد الوطن – بل يتمحور حول تناقض المصالح والسياسات المرتبطة بأهداف مشروع التسوية السياسية الأمريكية، وقد بدأ يتصاعد تدريجيًا بعد نهاية 2019، عزز أسبابه ما تكشف لاحقاً من خطوات وإجراءات تحقيق أهداف مشروع أمريكي، تعمل من خلاله الولايات المتحدة على تثبيت حدود وسلطة قسد على مناطق سيطرة واسعة في محافظات الحسكة وحلب والرقة ودير الزور تحت يافطة الإدارة الذاتية، وما يوفره من قاعدة ارتكاز أمريكية، ويتيحه من تحكم واشنطن بمصير سلطة النظام، وبمناطق في الجنوب، وعلى امتداد الحدود العراقية/التركية، وإصرارها على فرض شروط تحقيق مشروعها على النظام السوري والتركي؛ وقد تصاعدت وتائر الصراع في أعقاب قمة جدة، وبعد حصول صفقة تركية أمريكية، حشرت النظام السوري في الزاوية، وبالتالي فإن كل ما تستخدمه الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين والإقليميين من ضغوط، وكل ما يحاول النظام استخدامه من أوراق مقاومة لا يخرج عن هذا السياق، وقد برز مؤخر صراع الطرفين، شركاء خَيار الحرب منذ 2011 على ورقة العشائر غير عابئين بما ينتج عنها من تعزيز أسباب انقسام السوريين، وتعميق جروح الحرب؛ وما يزال الوعي السياسي النخبوي لايدرك تكتيك استخدام السوريين وآمالهم وحقوقهم كأوراق ضغط في سياسيات واشنطن!.
في التفصيل السابق، أود أن ألفت انتباه نخب قيادة الانتفاضة في السويداء إلى مخاطر وعي وسلوك نخبوي أصبح بارزا، يمكن أن يُعطي الولايات المتحدة فرصة لاستخدام الحراك كورقة ضغط، كما يعطي سلطة النظام مبررات ممارسة العنف؛ بما يخرج الانتفاضة عن سياقها الثوري السوري، ويحولها إلى ورقة في ساحات الصراع حول شروط تقاسم الجسد السوري؛ وقد تمثلت ببيان رسالة مدينة السويداء السورية إلى مجلس الأمن والبرلمان الأوروبي وما تضمنه من دعوة صريحة للتدخل عسكري، وبدعوة بعض الضباط المتقاعدين لتشكيل مجلس عسكري بحجة ضبط الأمن!.
ليس خارج السياق وفيما يتعلق بقضية العامل الذاتي الثوري، ينبغي أن نرفض منطق الثنائيات، الرومانسي، وأن نستمع لرأي مختلف، يشكك بوعي وسلوك نخب القيادة. التشكيك هنا لا يطال الجمهور ومصداقية مقاصده، ولا يعني بالضرورة أن صاحبه مؤيدا. على العكس، أعتقد أنه واجبا ومصلحة وطنية، يفسره ويبرره ما اظهرته بعض نخب المعارضات من رومانسية ثورية، أنتجت في الممارسة الثقافية وعيا سياسيا منفصلا عن حقائق الواقع، متجاهلا لطبيعة موازين قوى الصراع، وطبيعة مصالح وسياسات قواه وجدلية علاقاتها سياسية؛ وضعف مناعة وطنية، واستعداد شخصي لاقتناص الفرص، على صعيد الممارسة، تغطيها بلغة متشنجة باتت مستهلكة ضد سلطة النظام، ورموزه!هذه وقائع، لا يفيد تجاهلها، أو القفز عليها!.
بناء عليه، تساؤلات كبيرة يطرحها المشهد السياسي الحالي في السويداء:
كيف السبيل إلى تحصين الحراك السلمي ذاتياً، وجعله رافعة ونموذج لنضال السوريين الديمقراطي على امتداد الجغرافيا السورية؟.
هل تدرك غالبية جمهور الحراك طبيعة القوى التي تتنطح لقيادته، وحقيقة الأهداف التي تعمل عليها، وهل تملك النخب مؤهلات القيادة الثورية المطلوبة؟.
من نافل القول أن عدم امتلاك القاعدة الشعبية لوعي سياسي دقيق وموضوعي يجعلها تسير خلف توجهات وشعارات النخب، حتى عندما تتعارض مع أهداف الحراك المُعلنة، ويحولها إلى مطية لكل مَن يبحث عن فرص خاصة، على صعيد الأشخاص أو الأحزاب أو القوى الخارجية؛ وقد ذهبت غالبية ثورات شعوب المنطقة وحراكها السلمي على مسارات تتناقض مع مصالح جمهورها وأوطانها، عندما تمكنت قوى الثورة المضادة المحلية والإقليمية والدولية من تركيب قيادات تابعة لها، وتمكينها من قيادة جمهور غير مدرك لطبيعة القيادات، وحقيقة أهدافها، فتغيرت البوصلة، وضاعت التضحيات، وتراكمت خيبات الأمل والهزائم!.
المحافظة على طبيعة الحراك الوطنية الديمقراطية، وأدوات نضاله السلمية، يرتبط بشكل مباشر بقدرة جمهور الحراك ونخبه على حد سواء على تطوير آليات ديمقراطية، تحكم العلاقات الجدلية بين القاعدة الشعبية والقيادة النخبوية، وتضع وسائل الحوار وتبادل الآراء واتخاذ القرارات، وتمكن الجمهور من فهم حقيقة أهداف القيادة النخبوية، وامتلاك وسائل تصويبها، أو حتى عزلها!.
في خلاصة القول، أعتقد جازماً، في ضوء حقائق الواقع، وما تعكسه من مصالح، محلية وخارجية، ومشاريع سياسية، أن دفع الانتفاضة على طريق توفير شروط قيام سلطة إدارة ذاتية، (سواء من خلال بناء جسم عسكري كما تجسد في دعوات الضباط المتقاعدين التي قُيل أنها حصلت على مباركة سماحة الشيخ حكمت الهجري، أو من خلال استجرار تدخل عسكري خارجي، كما عبر عنه بيان مروان الشهير)، في ظرف لا تسمح بحصول تدخل عسكري أمريكي أو إسرائيلي مباشر، يشكل مظلة حماية على غرار سلطات الأمر الواقع القائمة، وأفضل ما يسمح به هو تغذية صراع اهلي، وتدخل غير مباشر كما حصل بين 2012-2014، بما يجعل من السويداء وأهلها الكرام، الجديرون بحياة حرة، كريمة، ورقة في الصراع الدائرة معاركه بين أهداف مشروع الإدارات الذاتية الأمريكي، ومسعى النظام لتأكيد سلطته، وشرعيته، الوحيدة.