fbpx

كورونا : كشف العورات

0 1٬132

كشفت كورونا عورات النظام الدولي، التي كانت مستورة، ومنكورة. وبينت حجم تهاوي الرأسمالية في نمطها الليبرالي القائم، أي النظام الذي ما إن انهار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي حتى اعتبره أنصار الرأسمالية أرقى وأكمل نظام أنتجه الجنس البشري، لأنه نظام أنتجته الثورة الصناعية والتقنية، ونجح في الاستمرار رغم تحديات هائلة عصفت بكيانه، في ظل تخلق طبقة عاملة واسعة الانتشار، قدمت بديلاً له يتفوق عليه من جانبين رئيسين: تمتع الإنسان ككائن مجتمعي بحريات لا تقبل الانتهاك، وخروجه من علاقات الاستغلال إلى علاقات من نمط مغاير، ينال فيه كفايته بعدالة.

ونتذكر بالتأكيد ما كتب حول انتصار الرأسمالية بصفتها آخر كلمة تقولها البشرية حول مصيرها الخاص، ومصير نظامها الذي لن يواجه أي تحد أو بديل بعد انهيار الاشتراكية، ولذلك سيتعرض الإنسان في ظله للضجر، بما أنه سينكفئ على ذاته، وسيعيش دون حاجات، ولن يوجد في حياته ما يمكن أن يثير حفيظته على الآخرين، أو يدعوه كفرد أو كمنضو في جماعة ما، إلى مقاومة ما في عالمه من مساوئ، بما أن عالمه سيكون خالياً منها، وسيتيح له قدراً من الانسجام مع نفسه وبيئته سيثير بمرور الوقت الضجر في نفسه.

وقد تبيّن لبعض الوقت أن هذا يحتمل أن يكون صحيحاً بشكل من الأشكال، خاصة وأن كيانات الحركة الشيوعية الدولية الحزبية والفكرية انهارت بانهيار السوفيات، بما فيها تلك التي لم تكن على اتفاق مع المدرسة السوفياتية، وأخذوا عليها ما سادها من قمع واستغلال للإنسان. بانتفاء ما كان يعتقد أنه بديل الرأسمالية، بدا وكأن صورة العالم أخذت تتفق وتوجهه نحو حقبة سلام واستقرار. تتفق وما دعا إليه ذات يوم فيلسوف ألمانيا العظيم “ايمانويل كانط” في كتابه عن “السلام الأبدي”، ومع بدء مرحلة من تطور البشرية ستكون أكثر عدالة وانسجاماً من أي مرحلة تاريخية سابقة.

بعد الانتصار، أعلن العالم الرأسمالي أنه ذاهب إلى حقبة ليبرالية محورها وحاملها رأس المال، الذي ستكون له أولوية مطلقة على عالم العمل، ويجب أن يتمتع بدعم مفتوح، لأنه سيكون رافعة التقدم المجتمعي والتقني، والتوزيع العادل للثروة، وضامن الحريات والحقوق، الذي سيندمج أكثر من أي وقت مضى في الدولة، وسيتولى بعض وظائفها، بعد أن أثبت خلال صراعه مع الاشتراكية أنه دافع عن قيم ضمنت الازدهار للفرد والجماعة، ولابد من رفع أية قيود كانت تعيق حركته في الماضي، وخاصة تلك النابعة من القطع بين عمال بلدانه والدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية. وزاد الطين بلّة أن الدول وضعت ميزانيتها لخدمة رأسماليتها، التي صارت مكانة الدولة تقاس بنفوذها ومكانتها، بينما بدأت علامات أزمة حكم أدت إلى انكفاء الدول عن العولمة وميلها إلى نهج قومي ضيق يعتمد القوة في ملاحقة مصالحه، الأمر الذي أطلق موجات من المشكلات الدولية والحروب، قوضت أكذوبة “السلام” وما كان ينسب إلى السوفيات من صراعات عرفها العالم، كما أن النزعة القومية والصراعات بين الرساميل والدول دمرت ما كان في النظام الدولي من دور لمنظمات الشرعية الدولية ومن ضمانات قانونية وعملية للسلام العالمي.

في هذه الأجواء، انفجرت قنبلة كورونا، فكشفت عيوب الرأسمالية الليبرالية المستورة، وأكذوبة أنها آخر كلمة للإنسانية، وأكدت حجم الاستهتار الذي أبدته تجاه شعوبها المهددة بالموت، وفضحت نواقص تنظيمها الاجتماعي والاقتصادي وضعف أهليته لمواجهة الخطر، وافتقاره إلى البنية الصحية والطبية الضرورية للمحافظة على الانسان وحياته، والمجتمع وفسحه التي تضمن استقراره واستمراره، وقصرت اهتمامها على منح رأس المال الأولوية على حياة البشر، وإطلاق تصريحات رسمية من كبار قادتها تقر بحتمية إنقاذ المواقف الرأسمالية كأولوية إنقاذية ولا مهرب منها، بذريعة عدم جواز توقف الانتاج، وتستخف بما تطالب به الجهات الطبية من توظيفات ودعم، وترفضه من تدابير رسمية تستهين بحياة المواطنين عبر التعهد برفع الحجر عنهم، ولو أفضى ذلك إلى استحالة القضاء على المرض، أو قضت كورونا على المجتمع.

يقول معظم من يراقبون الأزمة الراهنة، أنها تمثل تحد يصعب أن تبقى الرأسمالية الليبرالية بعده كما كانت قبله، وأنها ستواجه تحولات جدية في أساليب الحكم والإنتاج، وتوزيع الدخل الوطني، والعلاقات مع المجتمع في الداخل والعالم في الخارج، وستطرح على المجتمعات الرأسمالية المتطورة أسئلة تتصل بالتفاعل الإيجابي مع مجمل الجماعة البشرية ككيان لابد أن يعدّ من الآن فصاعداً موحد الكيانات مترابط الأجزاء، ومن الخطر بمكان الإمعان في تجاهل تنمية تضامنه، والتصدي بجدية ومسؤولية لمشكلاته، وبالتالي لمواجهة مصائره، بعد أن تأكدت استحالة أن يعيش قطاع صغير بمعزل عن مشكلات يسببها لغالبية البشرية، الغارقة في البؤس والحاجة.

تحدت كورونا النظام الرأسمالي الراهن. وأثبتت أنها ليست آخر صور التطور البشري، بل هي حكم إعدام على مجتمع بشري ظهر أنها تدمره بأشنع الصور، ولو كانت لديها حقاً خيارات أخرى، لما تفرجت على قتل السوريين بمئات الآلاف وتشريدهم بالملايين، ولما أسهمت فيه، بفاعليتها من جهة وسلبيتها من جهة أخرى، وها هي تواجه لعنة التاريخ، ولعنة من وضع الاستبداد أعناقهم تحت مقصلته، وسمح له العالم بالفتك بهم، لمجرد أن طالبوا بحقهم في الحرية والكرامة!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني