قمة القمم التركية – الروسية
دائماً ما عودنا الرئيسان التركي والروسي على حرصهما على نزع فتيل أي تفجر، وإتقانهما لسياسة حافة الهاوية وعدم الانزلاق بها، بل اتفاق شخصي بقمة على انفراد، ثم صياغة اتفاق يعتمد في صياغته على الغموض البناء الذي يمر بعبارات تحتمل التأويل المختلف والاتفاق على أمور أساسية وصياغة اتفاق وترحيل الخلافات الحقيقية إلى مرحلة تالية.
تتضارب المصالح الروسية/التركية على مدى التاريخ كله. حيث خاضت الإمبراطوريتان العثمانية والقيصيرية عشرات الحروب، بمعنى أن التاريخ المشترك بينهما تاريخ صراعات دائمة ومزمنة. حتى عندما أصبحت روسيا قلب الاتحاد السوفييتي، كانت تركيا ضمن حلف الناتو.
عندما حدث التدخل العسكري الروسي في سورية، أيلول 2015، اعتقد الجميع أن من فاته قطار التدخل لم يعد بإمكانه فعل ذلك، لكن على ما يبدو أن البلدان بحاجة لبعضها رغم خلافاتهما الجيوستراتيجية. إذ تمكن الجيش التركي في الأعوام 2016 و2018 من شن عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون بموافقة روسية كاملة بعد أن أوجدا مسار آستانة لإدارة الخلافات بينهما.
راج مؤخراً أن تفاهماً عميقاً أمريكي/تركي بخصوص منطقة الجزيرة والفرات (المناطق التي تسيطر عليهما ما يسمى بقوات سورية الديمقراطية). وكانت المعطيات (ومازالت) تشير إلى انسحاب أمريكي وشيك، ويهم الولايات المتحدة قبل ذلك تأمين حد أدنى من عدم الفوضى وتكرار المشهد الذي رافق الانسحاب من أفغانستان وضمان اتفاق بين قسد والروس والنظام، أو قسد مع تركيا لعدم حدوث اضطرابات وحروب تكون بالتأكيد على حساب قسد، الأمر الذي يعزز مقولة “الولايات المتحدة تتخلى عن أصدقائها”.
ويؤكدها أيضاً التصعيد العسكري التركي في منطقة الجزيرة، سواء باستقدام تعزيزات عسكرية للجيشين التركي والوطني السوري المدعوم من أنقرة، أو شن الطيران المسير التركي لضربات قوية ونوعية طالت قياديين من حزب العمالي التركي أو القصف المدفعي المكثف على جبهات عين عيسى وغيرها. ويتوقع مراقبون عسكريون للوضع في المنطقة أن تكون العملية التركية المرتقبة (سواء بتنسيق مع واشنطن أم كعملية نبع السلام الأولى بدون تنسيق) نوعية وتستهدف أماكن حيوية تقوم بتقطيع أوصال المناطق التي تسيطر عليها قسد وتشير الترجيحات إلى:
1- قيام القوات التركية وحلفاؤها من الجيش الوطني بالسيطرة على معبر سيمالكا والجسرين الموجودين على نهر دجلة دون دخول مدينة المالكية، وبذلك يتم قطع التواصل الجغرافي بين الحدود السورية وحدود إقليم كردستان (ولا يمكن استبعاد ترحيب البيشمركة بذلك)، ويتوجب حينئذ على قوات سورية الديمقراطية عبور أراض عراقية يسيطر عليها الحشد الشعبي العراقي، للتواصل مع قيادتها في جبال قنديل.
2- قيام القوات الخاصة التركية بعملية خاطفة تستهدف السيطرة على جسر قره قوزاق في منطقة منبج الواصل بين ضفتي الفرات الغربية والشرقية، وبذلك تتم محاصرة عين العرب (كوباني) وإسقاطها. وهي تشكل رمزية معنوية تضاهي عفرين بالنسبة للكرد السوريين إضافة إلى كونها تقع على الشريط الحدودي وتقطع التواصل الجغرافي بين منطقتي نبع السلام ودرع الفرات.
لا يخفي القادة الأتراك ضمان حدودهم الجنوبية من المالكية شرقاً إلى جرابلس غرباً وبعمق يصل إلى طريق حلب الحسكة المعروف بـ M4.
لا يمكن تجاهل الوجود أو النفوذ الروسي شرق الفرات (الذي لم يكن موجوداً قبل عملية نبع السلام)، يرغب الروس بالاطلاع على الخطط التركية في هذه المنطقة وهم لا يمانعون بدور تركي مهم في تلك المناطق.
وما يهم الروس سياسياً في منطقة الجزيرة، موافقة الأتراك على إجهاض أي دعوات، كالتي صدرت أخيراً من الرئيس المشترك لما يعرف بـ “مسد” حول مقاومة أي تنسيق بين مسد وقوات المعارضة السورية المدعومة تركياً، والذي دأب الاقتراح المشار إليه على إشراك تركيا كراع أو مشرف على نوع من التنسيق والتجمع بين منطقة الأمر الواقع شرق الفرات ومناطق غرب الفرات لأن ذلك سيتم بالتأكيد على حساب النظام السوري والنفوذ السوري في المنطقة.
على صعيد الوضع في إدلب، يرى متابعون للشأن السوري أن لدى الرئيس التركي ورقة سيقدمها للرئيس الروسي، لم يعد بالإمكان الانسحاب متراً واحداً من الأرض، ولا يمكن المقايضة أو التبادل بمكان آخر.
يمثل جبل الزاوية أهمية جيوستراتيجية لتركيا أمنياً، ويحمي وراءه ملايين النازحين السوريين الذين فروا من العمليات العسكرية لقوات النظام وروسيا. وإن أي عملية عسكرية لتغيير الخارطة ستصطدم بالقوات التركية المنتشرة على خطوط التماس.
وتركيا وأوربة أيضاً غير مستعدتان لتقبل موجات جديدة من النازحين، وستقاتل تركيا لمنع ذلك. لأن أي موجة نازحين جديدة إلى داخل الأراضي التركية ستستغل من المعارضة التركية في الانتخابات المقبلة، الأمر الذي يؤثر كثيراً على فرص فوز حزب العدالة بانتخابات 2023 التي باتت على الأبواب.
يرى بعضهم أن ما يسعى إليه الرئيس الروسي هو فتح قنوات تواصل سياسية بين النظام السوري والحكومة التركية لأن ذلك من وجهة النظر الروسية يمهد لحل الكثير من القضايا، وعدم الاكتفاء بالاتصالات الأمنية، ويرى بعضهم أن هذا المسعى يندرج ضمن خطة جرى التفاهم عليها بين الروس والأمريكان بالحوار الاستراتيجي الجاري ببنهما فيما يتعلق بالشأن السوري، حيث تقوم الخطة (التي يقال إنها مدعومة إسرائيلياً وعربياً عبر تحركات الملك الأردني) بتعويم بشار الأسد إلى حد ما، على أمل أنه يستطيع أن يطلب من إيران الخروج بشرط دعمه عربياً وغربياً. إذ لا تملك الأطراف خطة لطرد الميليشيا والنفوذ الإيراني من سورية غير تلك الوعود والأحابيل التي يجيد رئيس النظام السوري اللعب عليها.
أما هل يستطيع رئيس النظام القيام بذلك أم لا؟ هذه قصة أخرى، حيث وصل الاستقطاب التركي/الروسي الأخير سياسياً إلى حد اجتماع وزير الخارجية التركي بالمعارضة السورية الرسمية واعتبارها ممثلاً للشعب السوري، فرد عليه الرئيس بوتين باستدعائه لرئيس النظام السوري إلى موسكو وبث اللقاء علنياً كرد على الخطوة التركية.
سيذهب الرئيس التركي في 29 من أيلول الجاري إلى سوتشي، وكان بوده الاجتماع مع الرئيس الامريكي أثناء زيارته للولايات المتحدة بخصوص اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن اللقاء لم يحصل، وكان الرئيس التركي غاضباً من ذلك، إذ اعترف أن العلاقات التركية/الأمريكية تمر بأزمة حقيقية في عهد الرئيس بايدن. بل إن الولايات المتحدة تقدم الدعم العسكري للمنظمات الإرهابية التي تهدد الأمن القومي التركي.
سيذهب الرئيس التركي إلى سوتشي بدون دعم أمريكي كان يتمناه لتقوية موقفه.