fbpx

قصة بائعة الصمت

0 80

قبل أن أصبح كاتباً، كنت أطارد أنوثة الأشياء أغمسها بحبر دمي، ولكني أعجز أن أعيد فض دهشتها فأكتبها على الورق. حتى جاءت تلك المرأة التقطتني من دوامة حبري الجاف وورقي الأبيض، هتكت غلالة المعاني وكشفت أمام قلمي حجب الكلام. في عينيها سر يجعل الشمس تنحرف قليلا عن مسارها كي لا توقظ حلما لايزال غافيا. في صوتها بحة ناي مصنوع من لوعة، وحين كانت تتمدد إلى جانبي وتلتصق بجسدي الذي ينتفض دون توقف تهمس وصوتها يتمطى في ضلوعي:

– “ربما ستصبح بعد الآن شاعراً.. أو ربما مجنوناً يجوب الطرقات بحثاً عني” لا أدري ما كانت، غير أنها لم تكن مجرد بائعة حب، أصعدتني غرفتها ذات النافذة العالية، وفتحت أمامي نافذتها السرية على حلم بلون الليلك، بعد كل اشتعال تهمس في أذني:

– أتريد المزيد.. فينتفض جسدي مسلوباً مجذوبا باتجاه قطب واحد هو جسدها المسكون بشيطان الرغبة. قبل أن توصد أمام لهفتي نافذة اللذة وشوشتني بكلمات:

– ستعود إليّ لتشتري ما لا يشترى. في الصباح وجدت نفسي وحيداً في سرير بارد والنافذة مفتوحة على السماء الساكنة، أغصان الشجرة الضخمة تتلصص عليّ من شقوق النافذة، سمعت الشجرة تئن بصوت مكتوم تناجي أغصانها:

– “أنتم تتطلعون إلى نوافذ الأبنية العالية يقودكم نهمكم لتلك الأسرار المخبوءة وراء الستائر وهذا ما سيدفعكم إلى فأس الحطاب” نظفت داخل أذني بأصابعي فلم يكن منطقياً أن أسمع وأفهم حديث شجرة، خرجت من البناء حين كان الليل يفتح أبواب الريح، والظلمة تمد أغطيتها على جسد الاشياء ويغوص العالم في عتمة لا حد لها، ورغم أن السكون طبع الليل، لكن ليلتي تلك لم تكن ساكنة، فلم تصمت فيها الأصوات، قطرات الندى التي تتحلب من أوراق الأشجار، آهات الطريق وهي تتلقى خطواتي الثقيلة، حتى صوت النمل وهو يرتب مكنونات جحوره؛ كانت كلها تغزو سمعي وتتداخل لتبلغ أعلى رأسي وتستقر فيه ولا تبرح. قلت لنفسي:

– “ربما أثقلت في السكر والسهر؛ أو ربما كان ذلك تأثير تلك الفتنة العارمة، أو ربما يكون مس أصابني بسبب الكلمات التي همست بها تلك المرأة في أذني: ” أتكون تعويذة؟ أتكون هي ساحرة أو جنية ما؟!” كل صمت العالم والليل والكون تحول إلى ضجيج يملأ رأسي، كل شيء يهمس لي:

– “أيها المار من هنا تعال نحدثك!” ألقيت برأسي على الوسادة وتهيأت لأغوص في نوم يخلصني من كل تلك الأصوات، غططت في النوم، لابد من ذلك لأن لحظة واحدة مرت قبل أن أثب من فراشي حين وجدت أحلامي تتحدث إليّ، تعاتبني لأنني أنساها فور استيقاظي، ما إن أفتح عيني حتى تتبدد مثل دخان سيجارة. بدت أحلامي حزينة وعاتبة ولم أعرف كيف أتدارك الأمر فقد هددتني بأن تتحول إلى كوابيس تقض مضجعي، وتساءلت وأنا في خضم الحديث:

– أليس ذلك كابوساً؟! حاولت أن أفيق وأهرب من ثرثرة أحلامي بأي ثمن، فوجدت نفسي أرتدي ملابس العمل وأهرع ملاحقاً سيارات النقل وهي تتزاحم وتزعق في وجه بعضها بعضاً، ألقيت نفسي في إحداها؛ أرجعت رأسي إلى المقعد لأحظى بقليل من الهدوء والصمت، فزعق في رأسي صوت يهتف: ما أثقل رأسك أيها الغبي، نظرت حولي فلم أر أحداً بتكلم فمن يتحدث إلي؟ عاد الصوت يخرج ثقيلاً كأنه يصدر من بين أسنان تكرز: يبدو رأسك مثل بالون، وخيل إلي أنني سمعت صرير ضحكة محبوسة. تداخلت أصوات متطايرة من رأس لآخر – كبش الفداء – صيد جديد – المبالغ المترتبة تعالت أصوات الأفكار كأنها تولد في رأس صاحبها وتأتي لتصرخ في رأسي أنا فتتناهب سمعي وذاكرتي. وقفت السيارة، ارتطم رأسي بمسند المقعد فشعرت بألم فظ. ‏قذفت بنفسي خارج السيارة. كان رأسي ساخناً كأنه قدر يغلي – لابد أن أعود إلى الغرفة ذات النافذة العالية لأبحث عن تلك المرأة وأعرف أي لعنة ألقتها علي. بحثت كثيراً، ولكن الغرفة اختفت والأشجار تقف صامتة، تتفحصني باستنكار عدت أدراجي، رأسي يزداد حرارة في الحافلة العائدة إلى بيتي، كان الضجيج يملأ رأسي حتى بدأ ينتفخ ويتحول إلى منطاد صغير يخف ويعلو في الهواء وراح يرفعني حتى اصطدمت قمتي بسقف الحافلة عيون الركاب معلقة بي تشهق لمنظري. سارعت بالنزول، وما إن حطت قدمي على الأرض حتى طرت وارتفعت وصرت أحلق على مستوى حواف النوافذ العالية، والصور بداخل البيوت والمباني أمامي تمر مسرعة. من نافذة صغيرة أطل وجه البائعة بعينيها الساحرتين وهما تلمعان بذلك السر الذي دوخني. أردت أن أناديها أو ألوح لها بيدي لكن في اللحظة نفسها انفجر رأسي، تشظى إلى آلاف الأصوات. كل الأصوات التي اختزنها في اليومين الماضيين، وصمت الكون للحظة لحظة واحدة فقط فتلقفت قلمي وبدأت أكتب وأكتب حتى اسودت الأوراق أمامي توقف القلم، وأعدت رأسي للوراء قليلا كي أريح رقبتي. نادتني زهرة اصطناعية على طاولة الكتابة أمامي:

– “أانت بخير ؟!” نفضت رأسي، وهببت واقفاً، ثم عاد كل شيء للحديث إلي، تداخلت الأصوات من جديد، وبدأت تملأ رأسي، وهو ينتفخ ويكبر، وها أنا قد تعودت على الطيران، من نافذة عالية إلى حافلة مسرعة أبحث عن المرأة صاحبة الوجه الهادئ والعينين الناعستين لعلي أكشف ذلك السر، وإن كنت محظوظاً سأجدها وأشتري منها ما لا يشترى.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني