قراءة في الشمعة الواحدة والعشرون
الكاتبة علجة صدوقي
الشمعة الواحدة والعشرون عنوان يبحث عن صداه في مسار الرواية، ويتساءل القارئ عن سره حتى يتلقّى صداه في ذكرى مولد البطلة مليكة، أو صرخة الألم في الذكرى الحادية والعشرين لمولدها. هي الرواية أو الولادة الأولى للكاتبة الجزائرية علجة صدوقي AL ALDJA SADDOUKI، والتي أثبتت فيها أنها تمتلك فكراً وقلماً مميزين، قدمت لنا حكايات أو بالأحرى خطابات مزجت فيها الواقع بالخيال الذي يقترب من الفنتازيا أحياناً، امتلكت أسلوب سرد مشوق بلغة شاعرية رشيقة، وصور شفافة، وعبارات جميلة طغت فيها الشاعرية، سرد يشد القارئ للمتابعة من خلال الأحداث المنطقية حيناً، والخيالية أحياناً، وهذا هو عنصر الخطاب الجيد الذي يتكئ على الواقع ويذهب بك بعيداً في فضاءات شتّى، وواسعة كأنّك في وادي عبقر الشعري، وهذا المزج الذي يجعلك تعيش معه، وتتساءل: أكلُّ ما يحصل يستند إلى واقع تريد تشريحه وتحليله؟
أناس يعانون الخوف الاجتماعي، وخوف الفضيحة في مجتمع يقمع الإنسان، ذكوري النزعة، يعتبر الأنثى ضلعاً أعوج، وهي متنفس لغرائز رجل، همّه إرواء شبقه ليس غير، وكأنها مخلوق بلا مشاعر ولا أحاسيس، رجل ينشد متعته دون وازع أخلاقي. أليس رجلاً في مجتمع ذكوري؟ وهي الأنثى مكب نفاياته، ومن أسف أنها تساهم في هذه الذكورية، فهذه جواهر التي تتمنى مولودها صبياً ليرفع الحيف عنها ويسندها، وعندما يأتي حملها أنثى تنقم عليها، وتربط هذه الابنة بحدوث الكوارث التي حصلت معها وفي سيدي عيسى، وحتى لما استفاقت في النهاية إلى ابنتها نظرت إلى الوليد غير الشرعي بإعجاب ومحبة، فهو أول صبي في العائلة، ولولا خوف الفضيحة لاحتفظت به؛ لأنه ذكر.
تدور الأحداث في سيدي عيسى، البلدة الجميلة بطبيعتها وغابات النخيل، والبحيرة ذات المياه التي تحاكي زرقة السماء. وضعت الكاتبة شخصيات الرواية في مسارات متقاربة متباعدة، قلقة، متصارعة ظاهرياً، وداخلياً، وغير متصالحة مع ذاتها، تعاني.. تتحمّل.. تصمت.. تخاف في مجتمع مثقل بغياب الوازع الإنساني النبيل. نساء وفتيات صغيرات يتعرضن للاغتصاب، يلازمهن الخوف، يصمتن، سلبيات لا يواجهن، وكيف للأنثى أن تواجه والخوف يعشش في داخلها، مليكة وبسمة هاتان الصغيرتان كزهرتين تتفتحان يلجمهما الخوف، يعقد ألسنتهما، وهما صغيرتان لا تدركان عواقب صمتهما على الاغتصاب، ولمّا وعتا وقعتا في شرك الصمت، فلم يعد أحد يتقبل روايتهما، أو يصدقها، والفاعل أمام عيونهما يبتز صمتهما حتى تقرر بسمة الانتحار هرباً من الفضيحة قبل أن تُزف لمن تحب، وتتابع مليكة صمتها، وتحتار في مواجهة مغتصبها، وتضطر للصمت، ويزداد الابتزاز والتحرش بها من مغتصبها، وتخسر أختها نتيجة هذا الصمت، كما تخسر حبيبها كريم، وصديقها خليل..
يوسف المغتصب يتحوّل إلى عاشق، يستغل أختها ليتقرب منها، يظهر عشقه ويفعل أيّ شيء ليحصل على قلبها. ذكرى حادثة اغتصابها تقف حائلاً بينهما، يهددها، ويحاول اغتصابها ثانية في غرفتها، وتكشف أختها/زوجه ذلك وتفسره بالخيانة من كليهما، وتصمت خوف الفضيحة، تحقد على مليكة. ولشدة إصراره على امتلاكها، ولتهدأ نفسُه يتناول المخدرات، ثم يُكشف أمر تجارته بها، ويدخل السجن، وتُطلَّق أختها منه، وترمي حملها لتخسر أمّها جواهر مولوداً صبياً.
مليكة تزوره في السجن.. تتشفى به.. لكن في تكرارها صراع معاناة لا تدري عمّا ينمّ، يبدي لها حبّه فتصده، ولم يتذكر ذكرى ميلادها الحادية والعشرين إلاّ هو، يعاني من أجل الوصول إلى قلبها ويفشل. كريم الذي أحبته، أول رجل يجعلها تشعر بأنوثتها، يقف حائلاً بينه وبينها، لكنه ليس الرجل الذي أملت به، إذ يتركها لمّا اعترفت له بسر اغتصابها فيخذلها، نعم أليس ابن مجتمع ذكوري لا يرحم أنثاه، تكشف عن سرها لخليل خطيب صديقتها بسمة التي انتحرت خشية الفضيحة والقتل أيضاً، يعرض عليها الزواج، ولكن في داخلها صراع بين القبول أو التعلق بأمل أن يعود إليها كريم، وفي خفايا النفس ظلُّ يوسف المختبئ خلف حجاب الكراهية. ومليكة التي عانت منذ لحظة ولادتها الإهمال الأسري من أمها، وكراهيتها لها لماذا أتت أنثى وهي الحالمة بالصبي، لولا شغف والدها بها لتركتها للآخرين يربونها، لا تريدها. يتغير موقفها بعد الاطلاع على دفتر مذكرتها (الشمعة الواحدة والعشرون) واكتشاف حقيقة سرها الذي كانت تخفيه كاملة لتضمها إلى صدرها كابنة معتذرة عن شدة إهمالها لها.
يخرج يوسف من سجنه، يلاحقها، تصدّه. يقدّم تضحيات في سبيل استمالتها، يهديها كليته لينقذها من موت محقق، وينقذها من الاغتصاب ثانية على يد شاب متهور، يدفع تكاليف علاج أمها جواهر، كما ينقذ بيتهم من البيع بفعل الديون المتراكمة، ويساعد زوج أختها في عمله. كل ذلك للوصول إلى قلبها بأي ثمن، مستعد أن يدفع حياته من أجلها، يبدي ندمه على فعلته، وأنه تاب، وثاب إلى رشده، أليس خير الخطائين التوابون، تسامحه جواهر وهي، لكنه لم ينل العفو على ما فعل، وفي لحظة ينفرد بها في البيت يخون ثقة الأسرة ثانية لتنكشف الطيبة التي أبداها أنها قناع، فهو يعشق شكلها، وقوامها الممشوق، وتقاطيع جسدها الجميل، فلما حانت فرصته لم يمتنع عن قهر شبقه، وتنكشف فعلته، ويتوالى الصراع في نفس مليكة لتُجنّ وتثمر خيانته للأسرة التي وثقت به ابناً غير شرعي أول صبي في عائلة جواهر. إن الصراع الداخلي الذي عانته مليكة نتيجة كرهها السابق ليوسف، وما قدّمه لها ولأسرتها أفضى بها لحالة الجنون أخيراً، ولتنفجر في حالة غياب الوعي للاعتراف بحبها له، وهذا الاعتراف هل هو حب فعلاً أم هو الشعور أنه يعوض لها عذريتها التي فقدتها بسببه؟
ولابد من إلقاء الضوء على الصراع الطبقي المخفي الذي أثارته الكاتبة على يد والدة يوسف عندما حاولت شراء سكوت مليكة بالمال، هذه الطبقة التي تعتبر المال هو كل شيء، وبه تستطيع شراء ما تريد، فوالد يوسف مقبل على الانتخابات، ومداراة للفضيحة وسقوط زوجها في الانتخابات مستعدة أن تدفع لمليكة ما تريد، أما الكرامة البشرية فلا تفكر بها لأنها آخر همها.
لقد صورت الكاتبة في روايتها مجتمعاً جاهلاً، يسود فيه النفاق، والخوف، والإهمال التربوي للأولاد أو بعضهم في غياب الوازع الإنساني النبيل عند غالبيته، ولم تنسَ الجهل في تقبل العلاج النفسي، مليكة مثالاً، وكذلك إبراز الجانب الإيجابي في المجتمع فهناك مَن يتفهّم الواقع كخليل الذي بدا متوازناً، ومتفهماً، ومتجاوزاً لمفاهيم مجتمعه الذكوري المتخلف بروح إنسانية عالية. وفي النهاية أزعم أنها رواية جديرة بالقراءة.
أخيراً: لي همسة عتاب، إن عدم التدقيق اللغوي قبل النشر؛ أبرز الأخطاء النحوية والإملائية مسيئة لإخراج العمل بالشكل المطلوب. وهذا لا يقلل من وافر الاحترام لهذا القلم المبدع.