fbpx

في سوريا الجديدة… لا صوت يعلو على الدولة

0 5٬125

الدولة الحديثة تتكوّن من أرض وشعب وسلطة تحكمهما، والأرض ثابتة وهي الأساس في تشكيل الدول، ويجب أن ترتبط هوية الشعب (الذي سكن هذه الأرض لفترات طويلة) بها، وليس بأيّ عامل آخر عابر للحدود، كأن يعتبرها بعض الشعب أنها ليست وطناً نهائياً، بل محطة أو جزءاً في سبيل تحقيق دولة مُتخيّلة تَضمّ أراضٍ وشعوباً من دول أخرى تحت دعاوى عرقية أو دينية أو تاريخية، وبالتالي يتمّ تأجيل أسس هامة لترسيخ بناء تلك الدولة باعتبار أنّ ذلك ليس ضرورياً لأنها مرحلة مؤقتة. وغالباً، يلجأ الحكّام الطغاة لترويج تلك الفكرة، والذين يتستّرون بأيديولوجيا مُقدّسة يدّعون أنهم يعملون على تحقيقها ويستمدّون شرعيتهم منها.

ولن أختار إلا أمثلة قريبة من تاريخنا، حيث كانت أيديولوجية حزب البعث تنصّ على إقامة دولة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج دون خُطط واضحة أو خارطة طريق أو مقاربة حقيقية للواقع، وبالتالي استطاع الأسد الأب الانقلاب على كل رفاقه والاستفراد بالحزب والسلطة تحت شعارات ذلك الحزب، وتمّ إطلاق اسم “قُطُر” على سوريا، وليس “دولة”، وأسس لنظام سلطة جمهورية أصبحت وراثية بعد ذلك. وتحت حجّة أنّ سوريا الحالية ليست دولة نهائية، لم يُلتفت إلى بناء مؤسسات حقيقية ونهائية للدولة السورية، فغابت الحرية وحقوق الإنسان، وغابت فكرة المواطنة، ولم يتم تنفيذ خطط تنمية اقتصادية واجتماعية، ولم يتم ربط الهوية السورية بالأرض، لأنّ سوريا الحالية هي جزء من دولة مُتخيّلة كبرى.

وما ينطبق على سوريا ينطبق على دولة ولاية الفقيه الإمبراطورية، والتي تسعى لبناء هوية شيعية عابرة للحدود تكون أساساً لبناء خلافة إسلامية شيعية عالمية. ونرى الآن الحالة المزرية للشعب الإيراني وللشعوب التي وقعت تحت هيمنة تلك الإمبراطورية من فقر وفوضى وانتهاك لحقوق الإنسان، ومصادرة كل الثروات وهدرها في مشاريع متخيّلة تستمدّ شرعيتها من الدين والتاريخ وتُجافي الواقع، وهي في طور الذبول والانهيار الحتمي.

من الطبيعي أن يتمّ معارضة السلطة الحاكمة في الدولة ضمن قوانين وأُسس مُعتمدة قانونياً، ويتم تبادل السلطة بشكل سلمي تحت مؤسسات الدولة، حيث يكون التنافس تحت سقفها وليس عليها. ويكون التنافس السياسي ليس على الأرض أيضاً، فهذه الأرض (حدود الدولة) ليست مسرحاً للصراع السياسي، فهي وطن نهائي غير قابل لعرضه في بازارات السياسة والصراع الحزبي، بحيث لا تكون تلك الأرض جزءاً من دولة أكبر (كدولة كردية أو عربية أو إسلامية أو غيرها)، ولا أن يكون جزء منها هو جزء من دولة أخرى متخيّلة أو حقيقية (كرُوج آفا أو غرب كردستان المتخيّل).

ومن واجب السلطة الحاكمة التي تَحكُم الدولة أن تتقبّل كل أنواع المعارضة المشروعة، والتي تُصوّب الأداء. ومن واجبات السلطة التنفيذية القيام بحماية الأرض من تلك المشاريع بالعنف الشرعي، الذي ينحصر امتلاكه بها، وممارسة السيادة، والعمل على عدم انتهاك حرمات تلك الأرض، وبالتالي تحريم بل تجريم من يسعى لذلك.

الشعب السوري واحد، وهو كان من الشعارات الأولى للعقل الجمعي للسوريين عند انطلاق الثورة. ولا يوجد شعوب في سوريا، لا شعب عربي ولا شعب كردي ولا شعب تركماني، ولا مذاهب دينية يريد بعض أصحاب النفوذ فيها تحويلها لقومية وهوية خاصة على نمط اليهودية التي أصبحت ديناً وقومية بآنٍ واحد في إسرائيل، والتي تُجاهر بيهودية الدولة. وبالطبع، لا يوجد في سوريا شعب مختار له ميزات تفضيلية على شعب آخر، وبحسب القوانين الأممية، يحقّ للشعب القيام باستفتاء على حق تقرير المصير، وبالتالي هو الخطوة التي تسبق الانفصال الحقيقي عن الدولة تحت مظلة شرعية وهي القوانين الدولية.

كل السوريين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، ولكن وبما أنّ العرب هم الأغلبية الساحقة، والدين الإسلامي هو ديانة الأغلبية الساحقة، فإنه بالتأكيد، وكما هو واقع الحال، ستكون هوية الشعب، والتي ستصبغ به هوية الدولة، هي الهوية العربية الإسلامية، واللغة العربية هي اللغة الرسمية طالما أنّ الأغلبية تنطق بها، ولأنها لغة القرآن الكريم، والوعاء الذي يحفظ دين الأغلبية وفضاءها الحضاري والتاريخي.

وصحيح أنّ الدولة كائن مؤسساتي، إلا أنّ أن تكون دولة إسلامية الهوية فهو أمر عادي، وهناك منظمة تضم 54 دولة إسلامية اسمها منظمة التعاون الإسلامي، وتنضم إليها دول بصفة مراقب وهي دول مسيحية أصيلة لكن نسبة كبيرة من مواطنيها مسلمون، وأقصد هنا دولة الاتحاد الروسي مثلاً. ومن الطبيعي في هكذا دولة أن ينصّ دستورها على أنّ الدين الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع.

وبالتالي، ما الضَير في أن تكون ديانة رئيس الدولة الإسلام؟ طالما أنّ الشعب مسلم والدولة مسلمة، فهل يُعقل غير هذا؟

أما عن نهج السلطة الحالية، والتي يُرجع إليها الفضل في تتويج نضالات السوريين وتضحياتهم جميعاً في إسقاط نظام الاستبداد، فهو نهج إيجابي جداً، بل أكثر حكمة ومسؤولية من أشدّ المتفائلين بها. وقد أثبتت قُدرة ووعياً جيداً عندما ورثت دولة مُفكّكة وشعباً منهكاً متخاصماً، واستعملت تلك الحكمة والحنكة في محاولة لملمة الجراح على مبدأ “لا غالب ولا مغلوب”، إذ اعتبرت كلّ السوريين غالبين بالتخلُّص من نير الاستبداد، ودعت الجميع للمشاركة في بناء الوطن الواحد.

لم نسمع لغة طائفية من القيادة الجديدة، ولا نهجاً تمييزياً بين منطقة وأخرى، ومذهب وآخر، وعرق وآخر، وقدّمت نفسها للشعب بأنها تُدير مرحلة انتقالية لإعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد والخدمات العامة. وتلك مسؤوليات جِسام مع ضعف الإمكانيات نتيجة الدمار الكامل الذي ورثته، وإزاء تعنّت الولايات المتحدة دون وجه حقّ في توريث العهد الجديد عقوبات مفروضة على العهد القديم.

شجّعت الأناة والصبر والحِلم، والتي تميزت بها القيادة الجديدة، بعض الأفرقاء المُتضرّرين من العهد الوطني الجديد، وبعض الطامحين في اغتنام مكاسب لا يستحقونها أو لم يدفعوا ضريبة للحصول عليها. وبنظرهم أنّ سوريا ضعيفة الآن، ولا ترغب قوى إقليمية كبرى بتعافيها، بل تقول ليلاً ونهاراً وعلناً بأنها تريد تقسيمها، كإسرائيل المعتدية، وإيران المهزومة عسكرياً وتأثيراً ونفوذاً بأنها ستعمل على تخريب المسيرة السورية، ناهيك عن الولايات المتحدة وروسيا واللتين لا تريدان من سوريا دولة تتعافى بسرعة نسبية، وكلّ له أسبابه الأنانية.

ولإدراك القيادة السورية أنّ استراتيجية المرحلة الانتقالية تتطلب الصبر والتوافقات والاتفاقات والاستيعابات، مع استخدام القوة العسكرية لتدعيم ما ذُكر أو الوصول إليه، ولكن دون إفراط في استخدامها، حيث تتطلب سياسة المرحلة الحكمة مع الحزم للتعامل مع الضالين والمُضلّين.

لذلك، أرى أنه يجب على المخلصين من السوريين (وهم الأغلبية) دعم خيارات وسياسات الحكومة السورية، التي تَحمل أعباءاً تنوء بحملها الجبال، وتعمل على توحيد البلاد والعباد، وفرض منطق وثقافة الدولة، وبناء دولة المواطنين جميعاً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني