في ثقافة الكراهية أفولاً وصعوداً
مع أن الخطاب السياسي الرسمي في البلاد العربية على مستوى الحكومات وأشباه الحكومات وحتى على مستوى الفصائل بات يمتلك قدراً من الدبلوماسية والديماغوجيا بحيث يتجنب خطاب الكراهية مباشرة، ويتحدث عن المواطنة والمشاركة، ولكن يجب الاعتراف أن خطاب الكراهية لا يزال يسكن في برامج هؤلاء السياسيين، ويتغذى تلقائياً بخطاب ديني استئصالي يقدمه واعظون محترفون ينطقون باسم الرب.
وفي التعبير عن ذلك فقد أتقن مشايخنا وقساوستنا، وإسلاميونا وعلمانيونا مهارة الصعود على المنصات ورفع الأيدي المتشابكة، وتبادل الكلمات التزلفية، والتقاط الصور للسحنات المبتسمة، مع مراعاة الشعارات الفضفاضة التي تزين المشاهد من الخلف بما يعطي انطباعاً أننا نعيش الوحدة الإنسانية والوطنية على أتم حال.
ولكن المؤتمر الحقيقي ليس ما يجري على المنصات النفاقية، بل ما يكون يعدها حين يعود كل منا إلى منبره ومسجده وحوزته وحزبه، وهناك علينا أن نتابع لغة الوفاق والتسامح، وأن نواجه بغضب وازدراء لغة التبرير والنفاق التي يستخدمها أصحاب الوجوه المتعددة لتبرير ما يقولونه أمام المنصات مما يوهن عزيمة المواجهة مع الآخر التي لا تقوم إلا على بنيان من الكراهية.
وقد كان بالإمكان أن نكذب على أنفسنا ونستعمل الخطاب الدبلوماسي نفسه لنقول إننا لا نعاني من ثقافة الكراهية، وإننا مفتوحون للعالم وفق البيانات الرسمية الصادرة كل يوم عن السياسيين والمسؤولين في الدول والمنظمات، ولكن ميديا التواصل الاجتماعي فضحتنا وكشفت حجم الكراهية التي تسكن في خطابنا البائس، ولعل أبسط الأدلة واقربها هو استنفار جماعات الغضب الهادر لإغلاق باب الجنة على الفور في وجه كل راحل غير مسلم مهما كان دوره إيجابياً وبناء وأخلاقياً.
شاهدنا ذلك في رحيل شيرين أبو عاقلة وفي رحيل سيد القمني وفي رحيل محمد شحرور وميشيل كيلو وهشام جعيد وغيرهم من الذين ودعناهم هذا العام بحزن وأسى، ومع أن المشهد الموت وللموت رهبة وجلال ولكن خطاب الكراهية كان يقفز فوق كل هذه المشاعر ويستفز كل شعور بالرحمة والإنسان، وعلى الفور يبادر واعظون نصبوا أنفسهم أئمة على أبواب جهنم فيغلقون أبواب الجنة ويفتحون أبواب جهنم وعيداً أكيداً لكل بني آدم من غير المسلمين، بل لكل مسلم لا يلتزم خيار الجماعة وجمهور الفقهاء.
ولم يهتم هؤلاء الوعاظ الغاضبون على الإطلاق بتساؤلات الجيل الآتي: كيف يمكن أن نقول إننا دين سلام ومحبة ونحن نمارس هذه الروح الإقصائية القاسية ضد الآخر، كل آخر، مهما كان نبيلاً ووفياً ومؤيداً للحق الفلسطيني، وذلك لمجرد أنه كان على ملة أخرى.
ولكن ثقافة الكراهية لا تتوقف عند الوعيد الغاضب بجهنم، وإعلان البراء من غير المسلم وتحريم الود والصداقة والولاء، بل إنها تتطور تلقائياً إلى العمل العنيف، وآخر هذه الفصول الهائجة قيام هادي مطر وهو شاب في الرابعة والعشرين بالصعود إلى مسرح عام في نيويورك أمام الجمهور وطعن سلمان رشدي بأربع عشرة طعنة بسكين قاتلة أمام صراخ الناس في مشهد فظيع من الإجرام والعنف، تنفيذاً لفتوى الخميني المتوفى 1989 أي قبل ولادة الصبي بعشر سنوات، مع أن الصبي ولد وعاش في أمريكا ولكن خطاب الكراهية كان عابراً للقارات والأزمنة وحقق للفتى نهمة طالما تمناها أن ينقض على المخالف المكروه فيطعنه بخنجر الثأر، ضد شخص في الخامسة والسبعين، كان قد مارس الكراهية نفسها ولكن بدون سلاح قبل أربعين عاماً.
ليست الكارثة في توحش الشاب وجريمته، ولكن الفاحشة في المواقع التي قدمته بطلاً شجاعاً يدافع عن قيم الإسلام، ويواجه أعداءه بشجاعة وإرادة، ومع أن الفتوى صادرة عن مرجع شيعي ويفترض أن يحتفي بها الشيعة كما جرت العادة وأن يرتاب بها السلفيون السنة، ولكنها وجدت مشجعين هائجين من السنة والشيعة، وكأن الوحدة المنشودة بين الفريقين لا تتم إلا في ظل خطاب كراهية دموي، يطيح بالرؤوس ويتوعد بمزيد من النفوس، وخلال ساعات تصدرت صفحات الفتى وسكينه المتوحشة صفحات النت تطالب بتكريمه وتحيي نضاله وتطالب بتخليصه من يد السجانين الصليبيين المستعمرين ليتابع جهاده في مواجهة أعداء الإسلام والمسلمين.
ومع أنني لا أتردد في وصف القاتل بالمجرم، وليس له وصف آخر ولكنني في الوقت نفسه لست معجباً بما صنعه سلمان رشدي، وأعتقد انه شخص سيء ومستفز، وقد سعدت حين قرأت الرأي نفسه للأمير تشارلز وهو رمز لجيل أوروبي مثقف، حيث تحدث مراراً عن سلوك رشدي المشين، ووصفه بقلة الأدب وإهانة المقدس الإسلامي واستفزاز المسلمين والإساءة إلى جسور الحوار بين الغرب وبين الإسلام.
وأريد بالفعل أن أوضح ذلك لنعلم أن الحضارة الغربية مهما ذهبت في تقديس الحرية فإن حكماءها لا يزالون يطالبون بقيود على هذه الحرية تمنع تحولها إلى أداة تحريض وانتقام، وأن رشدي الذي استهزأ بالنبي الكريم وزوجاته لا يمثل بالضرورة العقل الأوروبي ولا الحضارة الأوربية، بل يمثل ذلك الجزء منها الذي لا زال مرتبطاً بالعصور الوسطى الصراع الدامي الذي أطلقه الصليبيون في ضد الشرق الإسلامي.
لقد منحنا التواصل الاجتماعي اليوم فرصة فريدة للمسؤولية، وبات كل من يملك صفحة على التواصل مسؤولاً من الناحية الأخلاقية عن مواجهة خطاب الكراهية، وقادراً على الإسهام بخطاب التسامح والانفتاح، وينبغي ألا يجد أولئك الذين يعتاشون على الكراهية ويتغذون منها منصات تنقل أحقادهم، وتروج لروح الكراهية السوداء التي تعصف بهم، فالجريمة تبدأ فكراً، ومن ثم تتحول الفكرة إلى تحقير إلى تكفير والتكفير إلى تفجير.