في المثقف أيضاً:
أكبر من أيِّ كلام..!
ما إن يجلس أحدنا أمام شاشة الرائي في منزله، حتى يجد أن أنهار الدماء تتدفق منها، سائرة تجاهه، تكاد تدخل المكان، قانية بلون الجوري، يتصاعد بخارها حتى يباغت أنفه، برائحتها الواخزة للروح، والضمير، لاسيما عندما تشير هذه السيول إلى أجساد مقطعة الأوصال، وفق هندسة يصنعها القاتل، في كل مرة، أينما كان، من دون أن يفكر بالصورة التي تتحول إليها روحه في مساحات أية مرآة كاشفة.
هذه الصور اليومية، التي تغرق صناعتها في عتو اللحظة، غير المتقاطعة مع ما هو إنساني، من شأنها أن تحرق طمأنينة المتلقي، فيما إذا كان الرائي هو المرسل الوحيد لها، أو فيما إذا شاركته في ذلك وسائل أو وسائط أخرى، باتت في متناول أيدي العالم بأسره، في ظل توفر نية استخدامها، لكسر الحدود أمام ما يجري في هذا العالم، برمته، لنكون أمام خريطة واحدة للجرح البشري، وإن كانت المحطات الأكثر غلياناً، تظهر، مبعثرة، وفق خط بياني خاص، بيد أن جميعها، تتشابك في النهاية، مادام أن الضحية هي واحد، والقاتل هو واحد.
وتأتي معضلة المثقف – على اختلاف أدواته التعبيرية – إن كان صاحب موقف بيِّن، تجاه ما يجري من حوله، لاسيما في ظل تلاشي صوته، إزاء ما يتم، وسط أصداء هذا الدويِّ، المرتطم، والهائل، لوسائل القتل، المتطورة، حيث يكاد صوته لا يغادر حنجرته، أو أنه يرتد إليه، فيما لو خرج، قليلاً، متفاعلاً مع كل ما هو متاح من وسائط ثورة الاتصال، من دون أن يفلح في وضع حد لهذه المأساة الكونية، الشاملة التي تتم، حيث كل ضحية فلذة كبده، مهما كانت هويته، ولون عينيه، وطريقة تسريحة شعره، أو أرومة حلمه الإنساني.
وإذا أضفنا إلى ما سبق، أننا لا نستطيع التحدث عن مجرد أنموذج واحد للمثقفين، بل هناك أكثر من أنموذج لهم، وإن لكل أنموذج موقفه الخاص به، تبعاً لرؤيته الشخصية – أو لنقل “مصلحته” – حيث أن هناك من يقف مع الخير، بيد أن هناك من ارتضى لنفسه مناصرة الشر، مقابل من يتخذ موقفاً بين بين، بالإضافة إلى من دأب أن يسكت على ما يرتكب أمام عينيه من انتهاكات وفظائع، ما يسهم في إضعاف جبهة المثقفين، ممن يفترض فيهم أن يكونوا “ملح الحياة”، “ضمير اللحظة”، و”صناع المستقبل”، لذلك فإن وجود المثقف الذي يربط مصيره مع مصير “صناع الشر” ليعقد المسألة، فهو من جهة يلعب دوراً تضليلياً، إذ “يميع” خطاب الخير، ويشكك به، فيغدو شريكاً للأشارى في ممارساتهم، ومن جهة أخرى فإنه عبر تشتيته لقوة الخطاب، يفتح جبهة وهمية، لا داعي لها، من شأنها إضعاف سطوة الدور المطلوب، والمنتظر، من الكلمة.
ومن هنا، فإن انخراط المثقف العضوي – بحسب غرامشي – في هموم، وأحلام أهله، ليغدو أمام تحديات كثيرة، تقلل من جدوى كلمته، في الوقت الذي يعول فيه على الكلمة، كي تستطيع خلق التوازن المطلوب، من أجل مصلحة بني الإنسان، لدرجة أن كل ما يكتب، يكاد لا يستطيع منع هدر مجرد نقطة دم بريئة، هي في جوهرها، أغلى من مليارات الكلمات التي تكتب بكل لغات العالم، ولا ترتقي لإيجاد حلول لمآزق العالم الذي يعيش أعظم حرب كونية مستمرة!
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”