في الفارق بين التراجيديا الزائفة والتراجيديا الأصيلة
لا يمكن النظر إلى التاريخ بوصفه حركة عفوية مليئة بالمصادفات فحسب، وإنما هو ثمرة أفكار في الرأس أيضاً، وإرادة تنقل أفكار الرأس إلى واقع، أفكار تطرح ما يجب أن يكون عليه العالم. وتبرز التراجيديا التاريخية الزائفة حين يكون هناك أفكار في الرأس ليست مستمدة من معرفة الواقع ومن الممكن الواقعي، تلعب دور المشنقة لأعناق الإمكانات، وللحيلولة دون ولادتها في الواقع، أو حين تكون أفكار رأس ٍ خالٍ من جدل الإمكانية والواقع والإرادة.
ولكن هناك فرق بين تراجيديا تاريخية أصيلة تحقق في الواقع ما كان في رحم التاريخ وهي التراجيديا الحقيقية، وتراجيديا الحمل الكاذب، تعول إرادة الحمل الكاذب على إرادة عمياء، لكنها فاعلة دون نتائج ذات شأن في التاريخ، بل على الضد من التاريخ، إذا تقوم هذه الإرادة العمياء بتأخير التطور التاريخي الممكن، وكلما كانت الإرادة العمياء عنفية صار إنجاز الممكن التاريخي الذي تنهض به الإرادة المبصرة صعباً جداً.
يضاف إلى هذين النمطين من التراجيديا، وهم الإرادة الحمقاء الحاكمة التي تعتقد بأنها قد تكون سداً أبدياً أمام مجرى التاريخ، وبخاصة حين يكون المجرى في حال الطوفان، وهذه حال الجماعة الحاكمة في صنعاء وطهران ودمشق ولبنان.
إن الخراب الذي تولده الإرادة الحمقاء قد يفضي إلى نمط من الانحطاط الكلي إذا ما كانت تمتلك فضلات قوة متبقية من إرث عنفها الطويل في قتل أجنة التاريخ.
فالإرادة الحمقاء الحاكمة في طهران باستخدامها العنف ضد التظاهرات التي انتظمت البلاد كلها تولد لديها إحساس بالنصر على منطق التاريخ، دون ان تعلم بأنها لم تفعل سوى وضع عائق أمام منطق التاريخ في سيرورته المليئة بالممكنات.
وقس على ذلك إرادة الجماعة في سوريا فقد ظنت الجماعة الحاكمة بتخطيط من عقول عنفية مخابراتية لا تفكر، قضت عمرها خائفة من الشعب واستنت كل الطرق اللاأخلاقية لإخافته، إنها بخلق الإسلاموية العنفية التي على شاكلتها قادرة على تجاوز المعركة مع جموع الشعب لكنها لم تدر بأن الوحش الذي خلقته والذي دعمته قوى إقليمية سيفقدها قوتها، فاستعارت قوة من خارجها كميليشيات الوسخ التاريخي من لبنان والعراق وإيران ومن دولة كبيرة تطمح لأن يكون لها مكان على المتوسط. وهكذا فإنها بخوض المعركة مع الوحش الذي خلقته قضت على ذاتها، فهي في وضع المنتصر الزائف، المنتصر الذي استعان بقوى همجية على شاكلته، انتصار أنتج الخراب القيمي والاقتصادي والثقافي والسياسي.
ومازالت الجماعة الحاكمة في شروط هذا الانحطاط تظن بأنها قابلة للتأهيل:
إن إعادة تأهيل الجماعة الحاكمة مرة أخرى لحكم سوريا وكأن شيئاً لم يكن أمر مستحيل عقلياً وبالتالي مستحيل واقعياً، إلا إذا كان التاريخ بلا عقل تماماً.
والمتأمل في انحطاط التاريخ الذي طار أو قصر يدرك الحقيقة الصارخة ألا وهي: إن سلطة حاكمة صارت عبئاً على مجرى التاريخ، ووقفت سداً أما مياهه المتجددة لا تفعل سوى تحويل التاريخ إلى جثة تتنفس فقط.
وهذا هو الانحطاط التاريخي، أو ما يسمى بعصور الانحطاط.
والانحطاط التاريخي يخلق بدوره وعياً مناقضاً لدى النخبة التي تفكر بأسلوب الخلاص من جهة، ولدى الناس الذين يتوقون للخلاص من الانحطاط وآثاره، وبخاص الجوع والكرامة الإنسانية.
بكلمة واحدة: والإرادة الحمقاء نمط من الاغتراب الجماعي التخريبي، الاغتراب الذي يزين لهذه الإرادة تجميد العالم عبر القوة، في الوقت الذي لا تكون مهمة القوة هذه سوى تأخير انفجار الحياة.