fbpx

في الجواهر والأعراض

0 46

ميز الفلاسفة قديماً، وعلى رأسهم أرسطو، وهم يسعون لفهم الوجود وأحواله بين الجوهر والعرض، فقالوا الجوهر ماهو قائم بذاته والعرض ماهو قائم بغيره، وقالوا بأن للجواهر أعراض. ودعني من أنواع الجواهر والأعراض كما جاءت في علم الكلام والميتافيزيقا، وانظر إلى البشر. وأنا أتأمل في الناس رأيت بأنهم جواهر قائمة بذاتها، وأعراض هي الأخرى قائمة بذاتها. ومن شيمة الأعراض البشرية أن تمد لسانها للجواهر.

ومن شيمة الجواهر، وهي معروفة، ألا ترد على الأعراض وهي مجهولة.

وقد سئل ابن حزم الأندلسي: مالك يا أبا محمد لا ترد على شتّامك؟ فأجاب:

“عرفونا فشتمونا، نحن لا نعرفهم”.

وكأن لسان حاله يقول: يصدر عن الجوهر الكلام المفيد والجميل الذي لا يلتفت صاحبه إلى قيل الأعراض. وليس ينفع مع الأعراض أن تتزيا بزي الجواهر تشبهاً، فلا يصدر عن العرض إلا عرض. فالقيل لا معنى له وقبيح. وأكثر الأعراض سوءً أعراض متثاقفة، وغلب عليها الوهم بجوهريتها.

فالأعراض المتثاقفة تقتحم بروحها الخسيسة عالم الأدب والفن، فتكتب شعر المديح بقاتل أشر بلا خجل أو وجل، وترسم صور طاعن الأكباد بقسماته القبيحة لتٌعلق على الجدران، وتكتب بعقلها البليد عن البلاد والعباد والأحوال، فتشوه جسد اللغة وتغتال الحقيقة. فويل لقوم كثرت فيهم الأعراض وسادت، وقلت فيهم الجواهر وغابت. وويل لأمة مُسخت فيها بعض الجواهر إلى أعراض بدافع الحاجة ولقمة العيش والحفاظ على الجسد معافى.

وقد سُئلتُ عن الفرق بين الرجل العرض والمرأة العرض وكيف يظهر ذاك وتلك؟ فقلت فيهما من الاشتراك كثير، ومن الاختلاف قليل. غير إن الأعراض من الرجال إذا كرهو قتلوا وغدروا وكذبوا، والأعراض من النساء إذا كرهن فجَرن. وفجور اللسان أقل شراً من طعن الخناجر في الظهر. وفي كلٍ شر.

والجواهر تتميز بالذكاء والدهاء، حتى لو حملتها الأحوال على التقية والإخفاء، فيما الأعراض يكثر فيها الخبيث السيء.

وقال صاحبي بأنه التقى بعرض ذكي فاندهش. فقلت له: فاتك التمييز يا صاحبي بين الخبث والدهاء. وكأني بك لم تقرأ ما قالته العرب في الفرق بين الخصلتين. فقال زدني. فقلت: أما الدهاء فهو الذكاء والفطنة وجودة الرأي وسرعة البديهة. وأما الخبث فهو المكر والرياء والخديعة. أما رأيت كيف فاضت عن بلاد العرب الأعراض الخبيثة حاكمةً ومحكومة ذات ولاء. والجواهر الزائفة. واعلم بأن الجواهر من البشر على أنواع: فمنها الجواهر النادرة وهي من وصفتهم العرب بالعباقرة، وهذه الجواهر النادرة. ولا يجود بها الزمان على الخلق إلى بالقليل.

وتفيض عن الحكمة والجميل ما يكون عصياً على البل، وتجدد إرثها أجيال الجواهر على مر العصور.

أما الجواهر المألوفة فكثيرة الحضور، وألوانها متنوعة ويصدر عنها ما يسر القلب والعقل إلى حين من الأدب والفن والحكمة والعلوم.

وحذار، يا صاحبي، من الجواهر المزيفة التي تصنعها الأكاذيب، ومعامل سلطة الإشهار وفساد الذوق، فتخدع الناس في شكلها، فهيهات أن تميزها في الشكل عن الجواهر الحقيقية. أما رأيت من كتب الأسفار الضخام وما بها من الكلام المفيد إلا النذر اليسير. ولم يأتك خبر من يختفون وراء الغموض المتعمد الخالي من المعنى للظهور بمظهر الأفذاذ.

والأعراض هي الأخرى على أنواع. فالحياة مليئة بالأعراض المألوفة ذات الغرائز المثقفة، وحياتها أقرب إلى الهدوء والسكينة والفرح بالمأكول والمنكوح والملبوس. والشر كل الشر من الأعراض الخبيثة، والتي تتحول بعنفها بفعل فجعها المستطير إلى دمامل على جسد التاريخ، وإن سادت فاقرأ على الحضارة السلام. ولهذا يظن أهل الإيمان، لفداحة ما يصدر عن الأعراض العنفية الثأرية الغازية إن سادت، بأنها من علامات قيام الساعة.

لكن الأمر أمر أحوال التاريخ وناسه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني