fbpx

في البحث عن الماوراء.. الفلسفة والعالم المعيش

0 23

يعيش عالمنا العربي كثيراً من الأسئلة التي لا جواب عنها جواباً فلسفياً، ومنها المشكلات البشرية المتعلقة بالوجود الإنساني والمصير، وهي لا حصر لا حصر لها. من مشكلة المأزق التاريخي إلى زعزعة عالم القيم تناقضاتها، ومن أشكال الوعي الخالقة للواقع الكثيرة، إلى التصورات السلطوية على الوعي والسلوك.

إلى مشكلة الإنسان ووعيه بذاته. كل هذا وغيره من شأنه يغري الفيلسوف العربي في النظر إلى هذا العالم المعيش. وعندي بأن التأمل في هذا العالم من شأنه إنقاذ كثير من المشتغلين في الفلسفة من غرقهم في عرض ما يقوله الغربي الذي لا يرانا بالأصل. فالفيلسوف الغربي، ولا شك شأن شأن الفيلسوف بعامة، يمد العقل بمناهج تفكير ومفاهيم ذات أهمية في فض العالم المعيش، وهذا ما يسمح للفلسفة بارتحالها إلى عوالم غير العالم الذي ولدت فيه، لكن ارتحالها هذا لا يعني ترديداً وتجملاً، بل إغناءً لعقل يفكر بعالمه ومشكلاته.

ولما كانت الفلسفة هي الكشف عما وراء الظواهر والوقائع التي نعيشها فشغل الفيلسوف أن يكشف عن المستتر وراء الظاهر.

فالماوراء لا يقع خارج العالم الواقعي كما يظن بعضهم، الماوراء هو ما لا نراه مباشرة وبالعين المجردة، والمستتر وراء الواقع الظاهر. فماوراء الفعل الإنساني هو أسباب الفعل وأهدافه. وما وراء الطبيعة هو الشروط السبيبة التي تقف وراء ظواهرها. حتى النقد الأدبي هو مبحث ماورائي. وكل العلوم الإنسانية والطبيعية هي علوم تسعى للكشف عما وراء.

وإذا كان العلم قادراً على كشف الماوراء عبر التقنيات واستخدام المختبرات والتجارب والوصول إلى العلاقات السببية لهذه الظاهرة أو تلك فإن الفلسفة باستفادتها من نتائج العلوم جميعها إنما هي استدلاليّة العقل.

الماوراء هو المولد الحقيقي للسؤال الحقيقي. لأن البحث هنا يكون عما يختزنه الواقع من اللامعروف القابع وراء المعروف.

وإن عجز العقل البشري عن فهم وتفسير ما وراء الوقائع الظاهرة والعجز عن كشف أسباب وشروط وجود على هذا النحو أو ذاك، هو الذي قاد إلى لجوء الإنسان إلى التصورات الأسطورية. واستمرار هذه التصورات هو دليل على استمرار العجز عن الفهم والتفسير الواقعيين. العجز عن كشف الماوراء الواقعي.

فلسفة الوجود هي فلسفة وجودنا، فلسفة الموجود البشري، فلسفة وجودي الواقعي، الواقعي أولاً هو وجودي، وجودنا فقط. أنا وأنت ونحن وأنتم جميعنا نصنع الوجود المعيش. حين أمنح الوجود صفىة الإنساني، بارتباط بوجودي الكلي، أنقل الوجود من حال الهيولى إلى حال الصورة. لولاي لما كان هناك وجود إنساني، الأشياء والأكوان وجود لكن بدوني ليست وجوداً إنسانياً. حين جعلت الكون موضوعاً لتأملي، وخلقت الأفكار حوله، وأبدعت الأشعار والقصص، وأنتجت النظريات لأفسره وأفهمه، صار الكون إنسانياً. لا أحد بقادرِ على أن يمنح الوجود صفىة الإنساني إن لم يجعل منه حقلاً من حقول ملاعبه. القرية التي أمضيت طفولتي فيها مخزونة في ذاكرتي، مكونة عالمي العاطفي، أحن إليها. القرية هذه حقل من حقول وجودي لا تعني شيئاً بالنسبة إلى أبني، أو إلى أمريكي أو إلى أي أحد لم يعش تجربتي أو تجربة مع القرية. عبثاً يحاول الإنسان أن ينقل وجوده الخاص المعيش إلى الاٌخر. إذاً هناك الوجود الخاص، والوجود الشخصي. هل أنا حر في أن أحدد وجودي وأرسم سوراً حوله على نحو حر؟ هل أنا قادر على أن أقرر ما ينتمي إلى وجودي وما لا ينتمي.

يجمع العاقلون أن الإنسان ألقي في هذا الكون دون استشارة. إنه وجود مادي ممكن روحياً وأخلاقياً ومهنياً، هذا في الأصل، أقصد أصل كل واحد منا، لا أصل الإنسان الأول الذي هو أبن تفاعلات الطبيعة.. إن وجودي ينمو ويتطور، يغتني عبر التجربة وعبر شروط لا حصر لها، الشروط المادية والمعنوية والثانوية والمصادفية. وفي معنى أولي أنا كائن لست حراً في أن أحدد وجودي على نحو ما أنا عليه. أو قل: لست قادراً بالأصل على اختيار كل حقول وجودي الوطن، المدينة، القرية، اللغة، العادات، العائلة، الاسم، الكنية، المدرسة، المعارف، الأخوة، الأم، الأب، والأولاد…. الخ. أجل أنا لم أختر هذا كله. لقد تعينت على هذا النحو أنفاً عني. هذا وجودي الذي تحدد وفق علاقاتي الموضوعية بالعالم. غير أني وجود ممكن. ولهذا فإن الممكن هو حقل تحقق وجودي الإنساني الحر، وهكذا تمتزج حقول وجودي. ينتمي وجود العامة إلى النمط الأول من الوجود، في الغالب، فيما ينتمي وجود الأنا الفاعل إلى النمط الثاني. فالأنا حين يصير مركزاً لذاته، ويحدد وجوده حراً. دون أن يتحرر الإنسان من السمات المطبوعة، فإنه لا يتعين بوصفه أعلى شكل من أشكال الوجود الإنساني. فكل علاقة حرة أقيمها مع العالم_بوصفها موفقاً حراً-تحدد وجودي على نحو خاص. علاقتي بالخلق أجمعين، بالطبيعة بالإنسان، بالمعتقدات. كل علاقة-موقف تجعل من وجودي الإنساني أكثر ثراء واتساعاً وعمقاً. وكل المواقف: الكره والحب والقرف، والخوف والرغبة والإعجاب والحزن والفرح والاستحسان والآمال والأحلام والتمرد والخنوع، والتي هي مواقف متغيرة، تعبر عن وجودي الذي لا يثبت على حال. لا شك أني لا أفرح بقرار ذاتي كما لا أحزن حاملاً نفسي على الحزن، لكن ما يفرحني-أنا-مختلف عما يفرحك وما يحزنني يختلف عما يحزنك، وأن كنا نتفق على بعض ما هو مشترك في الفرح والحزن. من كل ما سبق ينتج أن صناعة وجودي عملية معقدة ومتشابكة الشروط والأسباب ودائمة العملية. وعبثاً نحاول أو يحاولون اختصار الوجود الإنساني في لحظة، أو صفة، أو قول، أو رأي، أو حالة. فالعالم جزء لا يتجزأ من وجودي الخاص، العالم كله الذي أراه وأفكر فيه وأعتقد على أساسه وأحسه وأمتلكه وأعيشه وأتخذ منه موقفاً. حتى ليمكن القول أن العالم الموجود هو العالم الذي يشكل جزءً من وجودي.

لكن الإنسان هو كائن زماني، والزمن مفهوم جرده الإنسان من حال التحولات والتغيرات والأحداث والدلالة عليها. وقُسم الزمن لفهم توالي الأحداث وتحولات الأشياء إلى ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، دون أن ينسى أن يقدّ مفهومين للدلالة على اللازمانية هما الأزل والأبد. حيث الأزل ما لا بداية له في الزمان والأبد ما لا نهاية له في الزمان. ووحد الأزل والأبد في مفهوم واحد هو السرمد.

بهذا المعنى ليس للزمن وجود موضوعي، بل الوجود الموضوعي للأحداث والأشياء وأحوالها. ولضرورات عملية قسم الإنسان حركة الأرض حول الشمس إلى أيام وأسابيع وشهور وسنين، وسمى ذلك التقويم الشمسي واعتمد على دوران القمر حول الشمس وسماه التقويم القمري، وهكذا.

إذاً الموضوعي هو الحركة. وليس الزمان إلا طريقة ذهنية لفهم الحركة ووصفها. فالساعة ليست آلة لقياس الزمن بل آلة لرصد حركة الأرض حول الشمس، وقس على ذلك دلالة كلمات كالفجر والصبح والظهر والعصر، والعشاء، والليل، والنهار. فإذا سكنت في الشمس فإن كل هذه المفاهيم الدالة على حركات المجموعة الشمسية لن يكون لها معنى.

تكمن كوميديا العقل العامي في النظر إلى الكون انطلاقا من أشكال التحولات على الأرض، ويصوغ مبادئ كلية معتقداً بأنها مطلقة الصحة. فتأمل يا صاحبي المبدأ العامي الذي يقول “لكل شيء بداية ونهاية”.

البداية والنهاية مفهومان يدلان على نمط من حركة الإنسان وأحواله في العالم المعيش. فالولادة والعيش والموت بداية ونهاية والدخول إلى الجامعة والتخرج منها بداية ونهاية وقد نعرف بدايات ولا نعرف نهايات. ولكن ليس باستطاعتنا أن نجعل من هذا الحكم الاختباري المتولد من الخبرة مبدأ كليا.

فيما العلم الفيزيائي يقول “إن المادة لا تفنى ولم تخلق من العدم”؛ أي لا بداية للمادة ولا نهاية لها. ولكن يمكن أن نتحدث عن أحوالها فقط. أحوالها هي ما اصطلحنا على تسميته بالزمان.

ولهذا فإن جميع اللاهوتيين يرفضون المبدأ الفيزيائي الآنف الذكر الذي يتحدث عن سرمدية المادة. لأنهم يعتقدون بحال البداية والنهاية.

هذا الفهم الفلسفي- العلمي للزمن المستند إلى العلم الفيزيائي بلغته الرياضية من شأنه أن يغير نظرتنا إلى الحياة والوجود. والحق إن الإقرار العلمي ونتائجه على الأرض دون أن يتحول العلم إلى وعي بالحياة والكون نوع من فصام الوعي الذي يعيش الحقيقة والوهم في آن واحد.

وفصام كهذا لا يتحول إلى مصدر خطر على الحياة إلا إذا صار سلوكاً أيديولوجياً سياسياً يحرم العقل من نعمة التفكير وفوائده

وبعد: ما من فيلسوف إلا ويسعي لإبداع قول جديد في الفلسفة، إلا ويطرح على نفسه سؤال ما الفلسفة، سواء أجاء السؤال صريحاً أم مضمراً؛ فالفيلسوف عندما يكتشف سؤالاً جديداً، أو يعيد طرح سؤال قديم، ويعمل على صوغ الجواب، فإنه يقدم لنا تحديداً جديداً للفلسفة، يقدم الفلسفة كما يراها، وكأنه يجيب عن السؤال: ما الفلسفة؛ إنه يقدم لنا طريقة في التفلسف، ويظل في حقل ماهية الفلسفة، بوصفها نظرة إلى العالم، ومنهجاً في التفكير، الفلسفة منهج في التفكير؛ حكم تعريفي لا يقول -بعد- شيئاً عن المنهج، ولا سيما المفهومات، ينتقل هذا التعريف المجرد إلى المتعين حينما يعيد الفيلسوف طرح السؤال: ما الفلسفة؛ إنه-أي الفيلسوف- حين يذهب إلى المتعين؛ ليمتلكه نظرياً، يجيب عن السؤال: ما الفلسفة. إن سؤال: ما الفلسفة هو نفسه سؤال: ما المنهج الذي يسمح لنا بامتلاك العالم نظرياً، وما المنهج سؤال حول المفهومات المجردة التي صاغها الفيلسوف، بوصفها تعبيراً عن الواقع، وتأكيداً لوحدة الفكر والوجود؛ فالفيلسوف، وهو يكتشف المشكلة، يكتشف معها أدوات تناولها، أي: العدة المعرفية لامتلاكها نظريا.

كان الوجود، بدلالاته كلها مشكلة فلسفية، غير أن الزاوية التي نظر من خلالها إلى الوجود حددت -على نحو ما- منهج التفكير في الوجود، وحقل المفهومات المعبرة عنه. فحين نظر إسبينوزا إلى الوجود، بوصفه واحداً لحل مشكلة ثنائية الوجود عند ديكارت، صار لديه مفهوم الجوهر الواحد، والصفة، والحال، والقائم بذاته، وسبب ذاته، والطبيعة الطابعة، والطبيعة المطبوعة، والضرورة لكنه -عملياً- كان يجيب عن سؤال: ما الفلسفة، بحيث لو سألنا: ما الفلسفة عند إسبينوزالأجبنا بكل اطمئنان: الفلسفة عند إسبينوزا هي معرفة الوجود، بوصفه جوهراً قائما بذاته، وسبب ذاته، ومعرفة صفاته وأحواله.

إن مشكلة الوجود في الفلسفة الحديثة لم تعد تغري، وعندي بإن مشكلة الوجود الحقيقية هي مشكلة الوجود الإنساني في عالمه المعيش.

يقودني قولي هذا إلى التمييز وتأكيد بالمفهومات النظرية كائنات حية، تتطور وتتغير دلالاتها، وتموت أيضاً وحياة المفهوم ذات ارتباط بصيرورة المعرفة وسيرورتها؛ فهناك تاريخ لمفهوم الحق، يمكن رصده عبر مسيرة وعي الحق، وقس على ذلك الحكم، والديمقراطية، وهكذا.

وإذا كانت المفهومات هي حقل التفكير العقلاني- المنطقي- الواقعي، فإنه يقع في تناقض التصورات اللاهوتية، تقوم لدى صاحبها بوظيفة المفهوم، وتتحول إلى أحكام، يحولها المنطق الصوري إلى حقائق، وعندئذ لا تقوم الحقيقة، وأحكامها، على مبدأ مطابقة ما في الأذهان مع ما في الأعيان، كما تقول العرب، بل تكون مع ما في الأذهان، فحسب، حتى إنْ كان هناك تناقض وتضاد ما بين الأذهان والأعيان.

هل باستطاعتنا أن نقول بأن المعركة ما زالت قائمة بين سلطة المفهوم، وسلطة التصور. أجل. ويبدو أن زمناً طويلاً قد يمضي من دون أن تنتصر سلطة المفهومات الانتصار الذي يجعل من سلطة التصور سلطة أضعف من أن تحكم الحياة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني