fbpx

في الأكثرية والأقلية.. الاختلاف والتسامح

0 88

ما كان للعقل أن ينتج مفهوم التسامح لو لم يكن المجتمع حقل اختلاف. والتسامح في حقيقته ليس سوى قبول الآخر المختلف، والمساواة في الحق والواجب، وألا يكون الاختلاف أساساً للتمييز بين البشر. لهذا فإن العنصرية وكل أشكال التعصب التي تنفي المختلف، سواءً كان التعصب فكرياً أو أيديولوجيا، قومياً أو طبقياً، دينياً أو علمانياً، إلخ؛ كل هذه المفاهيم الدالة على التعصب ونفي الآخر هي المفاهيم التي تقع في تناقضٍ مع مفهوم التسامح.

لن أدخل في التاريخ والتفاصيل، بل سأطبق ما سبق وقلته على مفهومي الأكثرية والأقلية. الأقلية والأكثرية في المجتمع واقعتان موضوعيتان متكونتان تاريخياً ولأسبابٍ متعددة. فليس هناك مجتمع، الآن، على ظهر البسيطة خلواً من الأقليات. ففي أغلب الدول هناك أكثرية قومية وأقليات قومية أخرى. كل دولة لديها قوانين تميز في الحق بين مواطنيها بسبب انتمائهم القومي، ليست دولة تسامح. دولة التسامح القومي بين المواطنين هي دولة عدم التمييز في الحق على أساس انتماء المواطنين قومياً. كل دولة تسن قوانين تميز بين مواطنيها على أساس قومي هي دولة عنصرية.

ونادراً ما تخلو دولة من أقليات دينية وأكثرية دينية. وإذا كان التعصب الديني أخطر أنواع التعصب، فالدول الدينية مؤسَّسة لتعريض مواطنيها لهذا الخطر، الجمهورية الإسلامية الإيرانية مثالاً. من هنا كان التسامح الديني أكثر أنواع التسامح الذي تناوله المفكرون. والدولة العلمانية -المدنية هي التمثيل العصري لدولة التسامح الديني، فجميع المنتمين للأديان متساوون في الحق؛ وهذا هو معنى فصل الدين عن الدولة.

الدولة الأيديولوجية هي دولة اللاتسامح بالضرورة، لأنها تسعى عبر القوة والتربية والتعليم والإعلام إلى فرض أيديولوجيتها على الناس، وتميز بينهم على الأساس الأيديولوجي. وإذا كان المجتمع لا يمكن أن يتحرر من الأيديولوجيا فإن المساواة في حق الانتماء الأيديولوجي هو تسامح أيديولوجي.

دولة التسامح لا تلغي الأقلية والأكثرية بالمعنى الموضوعي، ولكن تمنحها شكل وجودها الحر، والتعبير عن نفسها بحرية، وتلغي كل ما من شأنه إثارة التعصب، وبالتالي تسن القوانين الرادعة للتعبير العملي والأيديولوجي للتعصب القومي والديني والأيديولوجي.

وفي دولة التسامح تزدهر الثقافة بوصفها التعبير الكلي عن الكل، وتزدهر الأحوال المعشرية بين الناس بوصفهم منتمين إلى وطن ودولة أهم أسسها هي المواطنة. ولهذا: كل أكثرية تحول دون أن تعبّر الأقليات عن ذاتها، هي أكثرية تعصبية ولا تنتج إلا حالة الطغيان، وتكون قاتلة للتسامح.

كل أقلية شاءت المصادفة المزعجة أن تتحكم بالأكثرية، وجعلت من تعصبها الأقلوي، مهما كان شأنه، أساساً لسلوكها هي أقلية مجرمة بحق الوطن، وتؤسس لأخلاق الثأر والانتقام.

ودولة المواطنة، ونظام المواطنة، وقوانين المواطنة، وواجبات المواطنة، وإنتاج سلطة المواطنة، هي الحال الوحيدة التي يكون التسامح جوهرها.

بقي أن نقول: إن دولة التسامح، بما تسنه من قوانين تعزز التسامح، تخلق الشرط الضروري لولادة أخلاق التسامح، ويغدو التسامح مع الأيام شكل من الوعي الاجتماعي السائد المتمثل بالسلوك، وعندها تغدو دولة التسامح وأخلاق التسامح الشرطين المؤسسين للأمن الاجتماعي والسلم الأهلي، ويغدو الحوار هو اللغة الوحيدة بين المختلفين المتعايشين في وطن واحد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني