fbpx

في أهمية المقاربة السورية التقاطعية

0 222

في الفترة الماضية طالعت مقالة مميزة بطرحها وعمقها لـ وجدان ناصيف عبر موقع الحركة السياسية النسوية السورية بعنوان “مدخل لمقاربة نسوية تقاطعية سورية”، وجدت فيها شرحاً مستفيضاً عن أهمية المنهج التقاطعي في النضال النسوي ولاسيما في سوريا. وهو ما أتفق معه جملة وتفصيلاً، بل وأنطلق منه إلى الإشارة إلى حاجتنا لهذا النهج نسوياً وفي مجالات أخرى، لاسيما بعد التيه الذي ضل فيه النضال السوري طريقه، من نضال ثوري يتوسم بناء دولة العدالة والحرية والمساواة الشاملة، إلى سيطرة مرتزقة لقوى خارجية ومجموعات متعصبة طائفياً أو دينياً أو عرقياً على مجمل المشهد السوري، مدعومة بقوى خارجية ذات مصالح تتعارض مع المصلحة الوطنية السورية في جوهرها، وإن تقاطعت قليلاً هنا أو هناك.

فقد تكاثرت الأصوات الإعلامية والسياسية السورية التي تفرغ الثورة السورية من جوهرها الحقيقي، عبر التركيز على مظهر واحد من مظاهر الظلم والاستغلال في سورية، وخصوصاً على المستوى السياسي تحديداً. وكأن النجاح في تخطي النظام الاستبدادي الأسدي، وإقرار نظام ديمقراطي انتخابي دوري، كاف لنقل سورية من واقعها الرث الحالي، أو حتى من واقعها التعيس قبل الثورة، نحو مصاف الدول المتطورة، دول المواطنة والفرص والمتساوية بين جميع أفرادها. بل هناك من يذهب نحو تشويه قيم ومفهوم العدالة، عبر انتقائية مقيته تضر بالمصلحة السورية قبل أي مصلحة أخرى، ولاسيما فيما يتعلق بعلاقة سورية مع قضايا الشعوب الأخرى، بما فيها قضايا شعوب المنطقة، كالموقف من التطبيع مع الدولة الصهيونية، والحق الفلسطيني، والموقف من الحركات الثورية العربية الناشئة، وصولاً إلى الحق السوري في أراضيه المحتلة منذ الـ 67، وكل ما يرتبط بقضايا التحرر العربي من قوى الاستعمار الخارجي، وفق هوية الدولة المستعمرة وطبيعة موقفها من الثورة السورية.

كما لابد من التأكيد على محورية قضايا التحرر والعدالة النسوية الشاملة والكاملة في هذا المنهج القديم الجديد سياسياً، وأن الدعوة لتعميمه على مجمل القضايا والوضع والنضال السوري الراهن والمستقبلي تتأتى من مدى تداخل الفعل القسري الاستبدادي والاستغلالي جندرياً وطبقياً وسياسياً وثقافياً، الأمر الذي يحكم تداخلاً نضالياً يصعب الانفكاك عنه؛ إن لم نقل يستحيل؛ لكل من يناضل بصدق لتحرير سورية الأرض والشعب، ومن أجل تأسيس وبناء دولة الرفاه والتقدم والحرية والعدالة والمساواة الكاملة والشاملة. ومنه بلا شك النضال النسوي المؤسس على قاعدة إزالة جميع أشكال اضطهاد وظلم واستغلال واستعباد النساء.

لذا أعود للمقالة المذكورة في المقدمة، كي أستعير منها نقد كرينشو للحركة النسوية التي همشت قضية النساء من ذوي البشرة السوداء، “ماذا لو أن المعركة ضد المجتمع الذكوري والمعركة ضد سيادة البيض كانتا معاً، ماذا لو لم يكن هناك غربة بين المعركتين؟ ماذا لو أن النساء الخاضعات لكلا القمعين معاً تم وضعهن في المركز ولم يتم تهميشهن في هذا الصراع؟. لنتخيل أن تمكين النساء في أمريكا لم يرى ويحتفى به كانتصار للنساء البيضاوات، لو أن تحرر العبيد لم يرى ويحتفى به كتحرر للرجل الأسود؟ ماذا لو أن النسوية دمجت منذ البداية النساء السوداوات والمهاجرات والآسيويات، تخيلوا لو أن الحركة المضادة للعنصرية شملت كل الملونين نساءً كانوا أم رجالاً؟ ماذا كان يمكن أن يحدث؟”.

انتقاد واضح وصريح، وشرح مهم لجوهر الفكرة، فانتصار الحركة النسوية تاريخياً في تثبيت حقوقها الأساسية بالعمل والتعليم والتصويت والاختيار، لم يقض على غالبية مظاهر الاستغلال والتسلط، بل في الحقيقية لم يقض سوى على جزء بسيط منها، ولصالح فئة قليلة منهن، طبعاً لا أعني التقليل من الإنجاز بقدر ما أعني تسليط الضوء على حجم الكتلة النسائية التي رزحت تحت عباءة الاستغلال الاقتصادي مثلاً، وعدم المساواة المهنية والمالية، والتعنيف والتحرش والاستغلال الجنسي ومئات المظاهر الأخرى التي عانت ومازالت تعاني منها غالبية النساء حول العالم، فضلاً عن مظاهر الاستغلال بحق النساء السود ولاسيما الفقيرات والعاملات منهن، اللاتي يخضعن لسيطرة سلطة ذكورية وطبقية وعرقية بغيضة وقاسية بذات الوقت.

وعلى ذات المنوال نجد أن وضع سورية قبل اندلاع الثورة حافل بأشكال الاستغلال والظلم على أكثر من صعيد وفي أكثر من مكان، وطبعاً تنال النساء الجزء الأكبر أو الأقسى منه، كالاستغلال الطبقي الذي يكرس هيمنة أصحاب رؤوس الأموال على حساب الطبقة العاملة الصناعية منها والزراعية والخدمية، إذ غيبت أبسط مفاهيم العدل الاقتصادي، من إقرار الحق في الاحتجاج والتنظيم النقابي أو المهني المستقل، إلى غياب القوانين العادلة والناظمة لعلاقة الموظفين بأصحاب العمل، كالضمان الاجتماعي والطبابة وربط الحد الأدنى للرواتب بحد الكفاف الأدنى. ولدينا كذلك مظاهر التنمية غير المتكافئة التي تتبدى في العديد من المظاهر الخدمية، كغياب مشاريع البنية التحتية الطرقية، وندرة المشافي والمراكز الطبية في المحافظات والمدن والبلدات السورية الهامشية؛ وفق رؤية النظام الحاكم؛ وصولاً إلى رداءة وندرة البنية التعليمية فيها. مروراً بغياب القوانين التي تحمي الفرد من السطوة الأمنية، وغياب أو ندرة القوانين التي تحمي المرأة. وصولاً إلى سطوة ثقافية ترسّخ قيماً اجتماعية بالية بذرائع كاذبة كاعتبارها قيم وعادات المجتمع الأصلية، وصولاً إلى قمع حقوق الأقليات الثقافية بما فيها اللغة. والأهم من كل ذلك انتقائية القضاء والسلطة التنفيذية والأمنية في تطبيق القوانين المقرة سلفاً، بما يخدم تكريس منطق القوة سلطوياً ومالياً وجهوياً وذكورياً.

وهو ما تعمق أكثر اليوم بعد تعدد قوى الاستعمار الخارجي والأطراف المنخرطة بالشأن السوري، التي عملت بمنهجية واضحة على تعميق منظومة القهر والاستغلال في مناطق سيطرة النظام وخارجها، والأمثلة على ذلك كثيرة كمحاصرة المدن وقصفها، واستغلال السلطة المالية في فرض أجندات وبرامج الممولين موالين كانوا أم معارضين، وكم الأفواه وفرض مظاهر الهيمنة الذكورية لاسيما في مناطق سيطرة المعارضة، وصولاً إلى تغيير بنية المنطقة السكانية عبر الطرد والترحيل القسري والسطو على أملاك السوريين بقوة السلاح ومئات المظاهر الأخرى.

إذاً، تخضع سورية اليوم إلى منظومة استبدادية واستغلالية كاملة ومتكاملة، ما يفرض عليها تبني برنامج تغيير جذري وشامل ومتوازن، لا يفاضل بين التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بل يكامل بينها ويزامن العمل على فرضها منذ اليوم الأول وحتى إنجاز التغيير المطلوب. وهو ما يشمل النضال من أجل حماية النساء وفرض حقهن في مواطنة متساوية قانونياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، وإلا فنحن نمضي نحو تكريس منظومة سلطوية فوقية مغايرة لا أكثر ولا أقل.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني