fbpx

غبش العقل

0 98

رآها فراشة ملوّنة، تدور وسط زهرات، تخطو مهرة بين رفيقات أنهين آخر يوم في الامتحان. ضحكاتهن زقزقة عصافير جذلى بيوم سرور يشيع الفرحة بالكون. تعلّقت عيناه بها.. تلاحقان حركاتها، وخصلات غرّة كستنائية تدغدغ عينين دعجاوين، وتغازل فوقهما سيفين لا يظهران إلّا لماماً. وجه صبوح، وقدّ ممشوق. ضحكتها ناقوس صدّاح في يوم عيد يدعو إلى الصلاة في محرابها.

سرقته…، أعادته سنتين عندما شاهد سعاد ومنّى النفس بها؛ لكنّها صدّته برفضها «أريد أن أتعلّم…»، وعندما أشارت أمًه إلى غناه، كلماتها جعلته يغوص في حمأة مياه آسنة«ليس بالمال وحده نحيا، المال لا يهمني، ليفطر ويتغدّى ويتعشّى أوراقاً نقدية، وليرات ذهبية»، ومتحسراً وغاضباً قالها «دعي جامعتك تطعمك…» وسافر…

سأل صاحبه عن اسمها، واسم أبيها. أخبره بالتفاصيل. ارتاحت نفسه، ومنّاها من جديد. كلّم والديه، قال الأب: ما تزال صغيرة، وردّت الأم: اتركا الأمر لي، ولم تضيّع وقتاً…

ذهبت إلى بيت أبي محمود، استقبلتها أم محمود بحفاوة، ولتصل لغايتها شعّبت الحديث حتّى تشكّت أم محمود من أخت زوجها العانس، وضيقها، وتبرّمها بالعيش معهم؛ فقالت أم حمد: ليس للبنت حماية غير الزواج. أيّدتها أم محمود…، شعرت ببعض راحة، سألتها: أصبحت غزالة عروساً، ألم يأتها عريس؟

– بلى، لكنّها صغيرة

– صغيرة!، تذكّري تزوّجنا أصغر منها بسنوات

– يريد أبوها أن تتعلّم

– وماذا سينفعها العلم؟! لتصبح عانساً كغيرها…

– يقول: أريدها معلّمة

– إياكِ، أقنعيه.. لا ستر للبنت إلّا زواجها

– ما تزال صغيرة، ولا تعرف شؤون البيت أو الزوج

– كنّا مثلها نجهل، وتعلّمنا

– جيلهن غير جيلنا يا أم حمد

– لا فرق، الأيام تعلّم ال…

– لن يوافق أبوها على ذلك

– كلّميه، لدي عريس من أحسن الشباب

– مَنْ؟

– ابني خالد، وهو معجب بها

– لنا الشرف لكن…

– بلا لكنّ، كلّمي أبا محمود، أريد أن أزوّجه اليوم قبل الغد

رمت حصاها في بحيرة أم محمود ونهضت.. أستأذنك.. وهي تغادر أنتظر الجواب؟

شاهدها أبو محمود وهي خارجة من البوابة،فسأل: ليس من عادة أم حمد زيارتك، فما وراءها؟

– لا تستغرب الأمر، نحن بنات قرية واحدة

– في الأمر إنّ؟

– إنها تبحث عن عروس…

– وترغب بغزالة؟

– نعم

– غزالة ما تزال صغيرة على الزواج

– الزواج ستر للبنت

– دعي البنت، ستصبح معلّمة…

– لكنّها قد تصبح عانساً كغيرها

– ماذا تقصدين؟

– إذا تعلّمت لن تجد عريساً في القرية، أمامك مثال حيّ…

– دعيني أفكّر بالموضوع

– فكّر.. خالد شاب مهذب، ولديه الملايين، هكذا يقولون

– لكنّه يكبرها، عمره ضعف عمرها وأكثر

– تذوب السنوات بين الزوجين.. وانصرفت لتعدّ الغداء

ومساء قبل أن تأوي إلى الفراش سألته: هل فكّرت؟

– لم أصل إلى قرار، إنها صغيرة، فكيف تدير بيتاً؟

– تذكّر، كنت أصغر منها عندما تزوّجنا

– أخاف عليها

– خالد شاب لطيف، وغنيّ، وأي بنت تتمنّاه

– الزواج نصيب

– ونصيب غزالة أراه مع خالد

– الصباح رباح

– أم حمد تنتظر الجواب؟

– نامي الآن

استيقظت أم محمود وهي تدعو أن يوافق زوجها لتطمئن على مستقبل ابنتها. تنسّمت رائحة القهوة المرّة، دخلت المضافة. صباح الخير.. رائحة قهوتك تفتح النفس. ضحك.. سكب لها فنجاناً.. تذوقته متمهلة وهي تنظر في عينيه.. ابتسمت.. قال: لنسأل غزالة أولاً؟

– يا رجل، ومتى كانت البنت تُسأل؟! أنت والدها وأدرى بمصلحتها منها

– أخاف أن أظلمها

– لا تخف، ستكون بخير.. اطمئن…

– على بركة الله

– سأخبر أم حمد بالموافقة؟

– أخبريها

استيقظت غزالة…، دنت من والديها.. حيّتهما.. ضحكت أمّها.. أصبحتِ عروساً ياحبيبتي

– ماذا!.. لديك عريس؟

– نعم

– أصحيح ما تقولين؟

– صحيح.. خطبتك أم حمد لابنها خالد

– مَنْ؟!! خالد الذي رفضته سعاد قبل سنتين

– وماذا يعيبه؟

– أريد أن أتعلّم أولاً

– أبوك وافق، وسيأتون لخطبتك رسمياً

– أبي…؟

– نعم يابنتي

– أين وعدك؟

– أعطيت كلمتي.. لن أتراجع

صرخت.. سمعتها عمّتها فهُرعَتْ إليها.. ضمّتها، ماذا بك؟

– يريدون تزويجي

– ممن؟

– من خالد ابن أبي حمد

– أصحيح يا أخي؟

– نعم، أعطيت كلمتي

– حرام عليكم، إنها قاصر

– ليست قاصراً، تزوّجتُ أمّها وهي أصغر منها بسنتين

– أيامكم غير؟

– لا، أتريدينها عانساً

– وما عيب العانس.. أتعيرني يا أبا محمود؟!

– لا أعيّرك، أريد ضمان ابنتي من…

– كفاكَ…، أن تكون عانساً أفضل من زواج غير متكافئ، فتعود إليك…

– وما أدراكِ؟

– أعلم…، لن تكون مرتاحة

– لماذا؟

– إنها في عمر ابنته لو تزوج مبكراً

– كفى، قضي الأمر، لن أتراجع…

وخرجتا معاً مكسورتي الجناح

اتفقا على المهر المعجّل والمؤجّل. تمّت الخطوبة، وفي المحكمة الشرعية رآها القاضي شابة فأجاز تزويجها… وسُجّل المهر ذهباً (500) غراماً معجّلاً مع أثاث بيت كامل، و(500) غراماً مؤجّلاً. وزّع خالد الحلوى والعروس غنمة تكتم في حنجرتها ثغاء…

في البيت بكت…، قالت لعمّتها: تمّت الصفقة.. باعوني…

بعد شهر سافرت غزالة مع زوجها، أمضت شهوراً حبيسة البيت؛ فالزوج منهمك في العمل، يخرج مع شروق الشمس ويعود في المساء مكدوداً لينام. قرفت عيشها.. بحثت عن جواز السفر فلم تجده، تهيّبت أن تسأل عنه، احتارت ماذا تفعل.. وذوت الزهرة، وهمدت الفراشة التي كانتها، وشحب لونها، وبدت عليها أعراض التعب والمرض.. طلبت منه أن يرسلها إلى الوطن للعلاج، وبعد إلحاح وافق، فعادت تحمل جنيناً، وأسىً يرتسم على محيّاها. راجعت الطبيب ولم يفلح… أسقطت جنينها.. بكته جدّتاه.. شكت أمرها لأبيها، وحمّلته مأساتها.. رجته التفريق فوافق. اعترض خالد، وطلبها لبيت الزوجيّة.. ساومها على المعجّل فسامحته، وتنازلت عن المؤجّل وكلّ شيء لتنال حريتها. عضّ والداها أصابعهما.. عادت مطلقة.. قال أبو محمود: ستجدين مَن يقدّر مزاياكِ.. ابتسمت: لم أعد تلك الغنمة…

سكنت مع عمّتها.. سألتها الأم…؟

أجابت بحزم: تعرفين…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني