fbpx

عن الحُبّ ما بين المشكلة والحّل

0 399

يتساءل مولانا جلال الدين رومي عن الحُبّ قائلاً:
سأقول لك كيف خُلِقَ الإنسان من طين.. ذلك أن الله – جل جلاله – نفخ في الطين أنفاس الحُبّ.
سأقول لك لماذا تمضي السموات في حركاتها الدائرية: ذلك أن عرش الله – سبحانه – يملؤها بانعكاسات الحُبّ.
سأقول لك لماذا تهبُ رياح الصباح: ذلك لأنها تريد دائماً أن تعبث بالأوراق النائمة على شجيرات ورود الحُبّ.
سأقول لك لماذا يتشح الليل بغلائله: ذلك أنه يدعو الناس إلى الصلاة في مخدع الحُبّ.
إنني لأستطيع أن أفسّر لك كل ألغاز الخليقة، فما الحل الأوحد لكل الألغاز سوى الحُبّ.
هذه العبارات الروحانية، دفعت الفيلسوف الألماني “هيغل” إلى ذكرها في ختام حديثه عن الفلسفة في “موسوعة العلوم الفلسفية” تقديراً لعظمة ودور وأهمية الحُبّ في شتى مباهج الحياة وسبل الظفر بالنصر المجلجلِ.
إذ يسعى الروميُ لحملنا إلى تجليات وانبثاق الحُبّ من أحاديث ملك السموات والأرض، مقدماً وصفاً شعرياً رومانسياً، بشكله الصوفي العتيق، وصفاً لفظياً ذي معنى، كالمسكرِ المتأتي من الكحوليات. مستخدماً أقسام اليوم وقوة الطبيعة في وصف عظمة لحظة الحُبّ التي ليس كمثلها شيء.
كما دعا مولانا جلال الدين الرومي ليكون الحُبّ تلاقي الطبيعة والروح، وتمازج العالمين الجواني الباطني والخارجي، وأن يتحاور الزمان واللازمان، بل وأن يتفاهم المتناهي واللامتناهي. ويقول في رباعياته: “كيف بكل هذا الحُبّ أرى عالمك ولا أراك”…”أحب أن أقبلك؟ جائزة التقبيل حياتك؟”…”ابق في صحبة العشاق؟ الآخرون، يرغب كل واحدٍ منهم أن يُريك شيئاً.. الغراب سيقودك إلى مخزن تبنٍ فارغٍ، الببغاءُ إلى قطعة سكّر؟ في الداخل بذرة نور؟ تملؤها بذاتك أو تموت” هو ذا التشجيع الروحي للحُبِّ والقُبلة والارتباط الروحي، ويؤثر في مزاج العشّاق تأثيراً شديداً، معتمداً على تمازج الروح والعقل في قضية الحُبّ فيأتينا بالأشياء الغريبة، على العكس من الأمور التي تعود عليها قراء الشعر ومتابعيه، حتّى وهو يُطيل الحديث، ويُكثر التفصيل، بخلاف الجمال الشعري الذي يعتمد على الإيجاز دون التفصيل، لكن تبقى نكهة العشق والحب الصوفي في مفردات ومدونات الرومي، نبراساً يهتدي به العشاق حتى أيامنا هذه.
يؤكد مولانا على أن الحُبّ حَلٌ لا مشكلة، تفسيرٌ لا أحجية.. بيد أن البشر هم من صنعوا منه مشكلة حينما عجزوا عن تنظيم حياتهم وفقاً لشريعة الحُبّ، فتحول الحُبّ إلى مشكلة لتلك الموجودات التي لم تعد تستطيع أن تحيا إلا على الكراهية. وربما يحاول سؤالٌ اعتراضي طرح نفسه، أمام هذه المشكلة وتغول الكراهية ومحاولته لطمس معالم الحُبّ وعنفوانه، كيف لنا أن نحيا في عصرٍ قوامه الحُبّ؟ ربما يكون الجواب متكوراً حول ضرورة الانتقال إلى قوة الحُبّ على حساب حب القوة. خاصة وأن أنبياء الحُبّ من جبران خليل، نزار قباني، تولستوي، وطاغور.. سعوا بكل ملكاتهم العقلية والفكرية لتجسد مقولة أن عصر الحُبّ لا يمكن له أن يزول، فهو وحده صانع المعجزات. ومن المرجح أن مقالتي ستواجه سيلاً من التهم أو التشكيك بالحُبّ وقيمه، بيد أنني كالكثيرين غيري، ممن لا زالوا يؤمنون أن هذا العالم البائس، لا ضوء فيه أجمل من الحُبّ الذي يصنع المعجزات، هو ذلك الحُبّ الذي يبتعد عن “النزوات” والعواطف المتقلبة، وهو ليس على علاقة بالانفعالات. إنما الحُبّ هو الفعل والنشاط المبدع الخلاق.
يمكنني الادعاء أن الحُبّ الحقيقي، كالمادة الصحفية الحقيقية، والمُحبّ كالباحث الجاد الحقيقي أو المشتغل في حقل المعرفة. فكما أن المنتوج الثقافي لا يتأتى إلا من الجاد الراكض وراء الحقيقة، يبذل في مسعاه ما يملك من طاقة مختلفة. هو ذا الحُبّ يتجه ويوجد في الإنسان الكلي السوي. وسبق أن قيل على لسان بعض الفلاسفة “إن في الحُبّ شيئاً من كل شيء: ففيه شيء من الروح، وفيه شيء من العقل، وفيه شيء من القلب، وفيه شيء من الجسد” فيظهر دور الوجدان والخبرة الوجودية في الحياة. مع ذلك لا أحد يستطيع أن يلم بكل أطراف الحُبّ كحل، أو كمشكلة. حيث يركز الكاتب زكريا إبراهيم في “مشكلة الحُبّ” على أن القرن العشرين تلقى مجموعة من المسميات، منها عصر التوتر النفسي، أو عصر القلق، وغيره. لكن ربما “بوسعنا أن نسميه عصر الحُبّ! والواقع أن نظرة واحدة يلقيها المرء على مجتمعاتنا الراهنة في الشرق والغرب معاً، لهي الكفيلة بأن تكشف له عن الدور الخطير الذي أصبح الحُبّ يلعبه في حياة الناس” وليس المقصد أن الحُبّ هو اختراع حديث، إنما يدور الحديث عن الحُبّ حالياً بطريقة لم يسبق أن تم تناوله بها سابقاً. فجميع وسائل الإعلام المختلفة من مرئية أو مقروءة أو مسموعة في كل مكان، تعج بسير الحُبّ وأقاصيص الزواج والطلاق والغرام. وغالبية الروايات والقصص والمؤلفات تدور أحداثها عن قصص حب بين أبطالها، هذا عدا عن الأفلام والمسلسلات والمسرح الذي تدور في أغلب تفاصيلها وجزئياتها عن أقاصيص ومشكلات الحُبّ والمرأة والجنس.. بل ويمكن القول وفقاً لما ذهب إليه “زكريا إبراهيم” إن أكثر “الأحداث التي استطاعت أن تستأثر بانتباه الجمهور – منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية – أحداث عاطفية يدور معظمها حول مشكلات غرامية”. الصراع المضاد لحق وقوة الحب، تبرز تجلياته حالياً، على قاعدة “بدعة” منح الآخر شيء من حقه، في “جزئية” حصول الفتاة على حقها في الحُبّ،. وهي معضلة وليست حقاً، وبات من الواجب تجاوز هذه السردية، للتدليل على مدّى تغلغل العشق في المجتمعات.
بالمجمل ربما جاز القول إن الحُبّ يتمحور حول التعلق بحالاتٍ ثلاث أولها: الانجذاب الذي يُشبع ويحقق مطلب الأمان والراحة، وثانيها: العاطفة المتلبسة بشعور الرضاء الجنسي، حيث لا تعمق في الحُبّ دون الانطواء على دلالات جنسية من حيث التفكير بها ضمن إطار الإشباع الطبيعي والشرعي. وثالثها: بلورة شعور عميق وقوي حول إبعاد وإقصاء الأنانية لصالح التضحية والذود بكل شيء في سبيل اللحظة التاريخية بينهما. كما أن “فلسفةً تريد لنفسها أن تكون وصفاً شاملاً للتجربة الإنسانية لابد من أن تأخذ على عاتقها أيضاً وصف خبرة الحُبّ” وهو ما يسمى القوى الدافعة للظفر بالآخر من أجل الامتلاك الثنائي لبعضهما بعضاً، دون سيطرة أو إخضاع. وهو حين ذاك القوة النفسية العارمة التي تدفع الذات للآخر، بتضحية ونكران للذات، لكي يكون لها وتكون له.
ووصفاً لذلك ورد في الأدب والشعر الروسي وصف عن الحُبّ ” قالت قطعة الجليد – وقد مسها أول شعاع من أشعة الشمس في مستهل الربيع، أنا أحب، وأنا أذوب؛ وليس في الإمكان أن أحب، وأوجد معاً: فإنه لابد من الاختيار بين أمرين: وجود بدون حب، وهذا هو الشتاء القارس الفظيع، أو حب بدون وجود، وذلك هو الموت في مطلع الربيع” وهي دعوة للاتحاد ما بين الحب والبقاء والتضحية، وتمازج أرواح المُحبين، عوضاً عن الموت برداً دون دفئ الحب، أو الفناءِ كمداً في الانعزال.
وفي الوجهة الأخرى من الحياة والعالم والمزاج الجديد والحب التي أتت على كل شيء جميل، يبدو أننا نعيش عالماً يتلمس متابعة العنف والإرهاب والقتل وصراع الهويّات أكثر من متابعة ما يدور على وسائل الإعلام من قصص الحب والغرام وما شابه. وهو بذلك إشارة واضحة لمدّى تأثر الحُبّ بالضواغط الاجتماعية التي ترى في سيرة الحُبّ هرطقة ومضحكة، وتجد في قصص القتل وسفك الدماء شغفاً للمتابعة. ولو كان للحب مكانة تليق بها، رُبما كانت النفسيات غير ما هي عليه اليوم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني