عنقاء لا تُكسر
إنّ للأشجار جذوراً تضرب في الأرض.. تتّحد معها.. تتشبّث بذراتها.. تمتص رحيقها، وتهديه للحياة ثمراً طيب المذاق. تتحدّى عواصف الأيام.. تخلع ثوب أوراقها، وتكشف عن مفاتن نسغها، تتعرى وتنام.. تصارع الرياح.. تهتز وتتلوى؛ لكنّها تصمد وتستيقظ فتية، ويعود لها الشباب، وتعاود نشاطها من جديد وكأن شيئاً لم يكن.
سوريا شجرة الحياة، ومنبع الحضارة والفكر، تزهو بماضيها العريق، وتراثها الإنساني المتنوع الثمر، وإنسانها المبدع الخلاق.
مرّ عليها الآشوريون، والبابليون، والفينيقيون، والإغريق، والرومان وبقيت عربية الوجه واللسان والوجدان، تغسل جفون دمشق بضياء الشمس، وتنشّفها بمنديل قاسيون، وتمسح على وجناتها من طوروس إلى حدود الصحراء، ومن مياه الأبيض المتوسط إلى سهوب الرافدين كل صباح. تبدّل دولاً كما تبدّل العروس طرحتها. تتعرض للهزات فتبقى هامتها مرفوعة، وأقدامها راسية كالجبال.
إنها زنوبيا هذه الأيام، مقهورة بقوة الطغيان وجور الإنسان. لعبت بها السياسة والمصالح الدولية، وعاث فيها المفسدون، وعشش فيها البوم والغربان. أضعفوها وأذلوا أبناءها فتشردوا في كل مكان نازحين، ومهاجرين، ومهجّرين يحلمون بعيش كريم.
ودقت الطبيعة ناقوسها والناس نيام، فصحوا على هول القيامة. أبنية تتصدع وتنهار على رؤوس سكانها، وأرض تتشقق، فصرخ الناس، وتعالت أصوات الاستغاثة تطلب النجدة والمعين قليل، والإمكانيات ضعيفة ونزيرة، والضحايا كثر…
شكراً لظلم الطبيعة، عدالة ظلمها أكثر إنسانية من البشر، فلم تفرّق بين الجميع، غنيهم وفقيرهم، صالحهم وطالحهم، مواليهم ومعارضهم، كلّهم سواسية أمام قانونها.
شكراً للطبيعة كشفت عن معدن السوريين وأصالتهم، وأن همهم واحد، فما فرّقته أهواء السياسة؛ جمعته المحبة والروح الإنسانية الضاربة في أعماق الزّمان.
هذه هي سوريا الحضارة والتاريخ، في أشدّ محنتها تعاتب بود، وتعطي دون منّة، وتشكر بلا تحفظ.