عندما تَحْولُّ العيون
إذا ما سقط رجل ضحية لسبب ما تقشعر الأبدان، وتلهج الألسنة بالدعاء تارة أو باللوم تارة أخرى، فكيف إذا كانت الضحية طفلاً بريئاً لم يرَ من الدنيا غير تباشير الفجر وتلاويح أشعة نور الصباح، طفلاً ضعيفاً يعجز عن فهم محيطه وما يدور فيه من نزاعات مختلفة تسرق منه الفرح، وتفقده طيّب العيش ولينه، والأمن والأمان؟
العالم وهيئاته ومنظماته الدولية والإنسانية ترفع عقيرتها منادية بالحفاظ على الطفولة وتعزيزها وحمايتها، واحترام حقها في الحياة، والعيش الكريم، وتأمين سبل التعليم، والعناية الصحية، وتوفير كافة العلوم والمعلومات وتداولها في جوّ تسوده المحبة والسلام. وأكدت ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي اتفاقية حقوق الطفل.
نظرة خاطفة عجلى، وإشارة إلى حادثتين أو قصتين متقاربتين لطفلين تتفتح عيونهما للشمس وضوء النهار، وربطهما بما يدور في عالمنا الذي يمور بالعنف، ويتصارع فيه الكبار على المغانم، والكراسي، وفرض السيطرة على الآخرين بأشكال وألوان شتّى، فتتساقط الضحايا من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء في أتون النزاعات لتحقيق مقاصد ورغبات بعيدة عن الطبيعة الخيّرة والفطرة التي فُطر الإنسان عليها منذ بدء الخليقة، وعن المبادئ الأخلاقية السامية، والقوانين الناظمة في المجتمعات المـتحضرة لحياة رغيدة كما يتمناها الجميع.
رمى الحظُ العاثر الطفلَ المغاربي “ريّان” في قاع بئر عميقة. وقفت الدنيا بأسرها وما قعدت. أيام عصيبة مرّت. الإعلام المحلي والعالمي يتابع الحدث لحظة لحظة. ريّان الطفل الجميل سقط في بئر عميقة يعاني الوحدة، والظلمة، والبرد، والجوع، ونقص الأكسجين. الناس تتجمّع في المكان، قدمت من أنحاء البلاد قريبها وبعيدها، شيباً وشباباً، نساء وفتيات. فرق الإنقاذ تسابق الزمن، تضغط الساعات لتصبح دقائق، تحاول جاهدة أن تصل سراعاً إليه وتنقذه قبل أن تمتد إليه يد المنون، تغالب الطبيعة.. تحفر الأرض تراباً وحجارة. الرجال مستنفَرون، والآليات جاهزة، ومسؤولو الولاية يتابعون ما يجري على الأرض شخصياً، والإعلام المغاربي ينشط.. يقوم بالتغطية على مدار الساعة، لقد تحوّل الحدث.. كبر وكبر.. أصبح حالة عالمية وإنسانية تستفز المشاعر، وتدور على الألسن.
وخطفَ أشقياءُ الطفلَ السوري “فوّاز” ابن ثماني السنوات.. عرّوه.. عذّبوه.. مزّق صراخه جدران الغرفة، وتعرّق سقفها من تأوّهاته تحت سياط جلّاديه، وهزّت قلوب الناس فعصرتها وآلمتها، وأقضّت مضاجعهم فكيف قلوب والديه والأهل؟
فوّاز لم يسقط في بئر عميقة كريّان، ولم يلقَ ما لاقاه ريّان من حفاوة واهتمام؛ لكنّه سقط في أيدي وحوش لا ترحم.. وحوش تمشي منتصبة على قديمين كالبشر؛ لكنها ما هي من البشر، ولا تتصف بصفاتهم. وحوش فقدت الضمير والوجدان والأخلاق والرحمة، وتخلّت عن القيم الإنسانية، وحوش سادية داست المبادئ، ومرّغت شرف وكرامة الإنسان من أجل المال. وحوش أفقدها الطمع والجشع البصيرة فلم تأبه لتوسلات أم وأخت أوصديقة.. استغلت الفلتان الأمني لتعيث في الأرض فساداً وتنثر شرّاً، وصمت الإعلام الرسمي على استحياء، ووقفت السلطة المعنية شبه عاجزة عن الإمساك بالفاعلين، فشتّان ما بين ريّان وبين فوّاز. كلاهما زهرتا فل بيضاوان تتفتحان مع خيوط الفجر على دنيا جديدة. كُتمت قصة فوّاز كشعلة فانوس خنقتها الريح، وتأججت شعلة ريّان كضوء منارة تهدي الضالين…
لم تعد حادثة “ريّان” وطنية، ولا عربية، أصبحت عالمية وإنسانية، نال ريّان بمفرده من تعاطف واهتمام إعلامي وجماهيري ما لم ينله ملايين الأطفال المهجّرين والمشردين في مخيمات النزوح واللجوء حيث يفتك بهم البرد والجوع وسوء التغذية وقلّة العناية الصحية، وانعدام التعليم…
صعدت روح ريّان – رحمه الله – إلى باريها بعد أن لقي اهتماماً محلياً ووطنياً وعالمياً، وصعدت آلاف أرواح الأطفال السوريين واليمنيين.. وغيرهم وهم يغوصون في وحل المستنقعات الشتوية، والمياه المتجمدة، وينامون تحت أقمشة خيام غطّاها الثلج، وتكدّس فوقها فتطامنت عليهم دونما حماية تقيهم شرور الصقيع والبرد القارس، وليس لهم إلا أغطية المساعدات الأممية. الجافة منها تقي بعض غوائل البرد، والمبللة تغدو مياسم زمهرير يكوي الضلوع.
حملة إعلامية كبرى لأجل ريّان – رحمه الله – والطفولة تستحق أن يجهد العالم كلّه من أجل إسعادها والحفاظ على حياتها حتى لو كان المعني فرداً ليس غير.
ريّان الطفل البريء حرك ضمائر المجتمع الدولي، وهزّها بقوة دونما تمييز بين الناس على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، ولغاتهم، وقومياتهم، وإثنياتهم، ومواطنهم، وعقائدهم، وطوائفهم الدينية، فكيف إن كان المعني جموعاً غفيرة – من الأطفال الضحايا المهمشين – تُعَدّ بالآلاف والملايين؟؟! ثمّ أليس من حق المرء أن يتساءل: أين هذه الحملات الإعلامية الصامتة عن انتهاك حقوق الأطفال الأبرياء الذين يتساقطون ضحايا في دول النزاعات المختلفة؟! ولماذا هذا الصمت؟! ومَن وراءه؟! وكيف يمكن للعالم ومنظماته الدولية والإنسانية أن تبقى عيونها حولاء لا ترى إلا من ثقب ضيق باتجاه واحد؟! وأين إعلام الدول المعنية نفسها؟! وكيف تُشدُّ وتُوثَق الأيدي الإعلامية، وتُقَصُّ الألسنة، وتُعطّلُ عدسات كمرات التصوير؟! وإلى متى يستمرّ هذا العنف الذي يحصد آلاف الأطفال؟! وإلى متى تُنتهك حقوقهم ويسقطون ضحايا لعبة الكبار؟! وما هي جريمتهم إن وُلدوا في دول يجتاحها العنف ويتآكلها، وتستنزفها وتدميها النزاعات؟! ولماذا تُغمَض عين المنظمات والهيئات الدولية والإنسانية عن معاناتهم وعلى رأسها الأمم المتحدة ومنظمتي اليونسكو واليونيسيف إلا من مساعدات تكفي الحدّ الأدنى للحفاظ على الحياة؟! أين كرامة الطفولة المهدورة على أيدي رعاع المناطق القلقة التي لا تعرف الأمن والأمان؟! وأين الحدّ الأدنى من الحماية التي يتطلّبها الأطفال في المناطق الساخنة والملتهبة بنزاعات تتوالد وتتفشّى كبقعة زيت تطفو على سطح الماء؟! ومتى يهتز الضمير العالمي للمجازر البشرية في مناطق النزاع فيسعى إلى وضع حدّ لها؟ ومتى ينعم عالمنا بالسلام والأمان؟! ومتى تستيقظ الضمائر البشرية ساعية لوقف مهزلة العنف والقتل المستمرين لغاية نهب ثروات الدول المستضعفة؟! ومتى يتحقق للطفولة قدر من العناية والاهتمام اللازم والرعاية الحقيقية؟!
أسئلة كثيرة تحتاج أجوبة… أسئلة توضع على طاولة المؤسسات الوطنية والمنظمات والهيئات الدولية أملاً أن تلقى اهتماماً مميّزاً فلا تُركن جانباً أو تُحفظ في الأدراج!!.