fbpx

عندما تهجر العصافير أعشاشها

0 222

يوم المنى، تفتح الدنيا أبوابها، تشرق الشمس وضّاءة، تنثر الورودُ أزهارها، وفي الأمكنة يفوح عطر أريجها، يعبق في الجو فينعش النفس، ويملؤها حبوراً وسعادة مع إشراقة اليوم الأول في عش جديد، وهمسات ووشوشات تدندن على وتر صفو الهدوء لاثنين يصافحان الحياة والأمل، ويحلمان.

يكبر العش، ويعلو ضجيج الزغاليل في جوانبه، يلقمهم الوالدان نسغ الحياة، قلباهما يخفقان مع كل ذهاب إلى المدرسة، ويهفوان لرؤيتهم آيبين، تزغرد الدنيا مع عودتهم فرحين بالنجاح.

ينمون شبراً شبراً، يرفرفون بأجنحة تقوّتْ قوادمُها والخوافي، يطيرون، يحلقون، يعودون وعيون الوالدين ترقبهم على أمل بمداعبة الأحفاد ذات يوم.

وتجري الأمور على غير ما شُدّتْ أعنتُها، يطفح الفساد وتضيق البلاد على العباد، وتُهدر المقدرات، يُثار الغبار، تهبُّ عواصفُ هوجٌ، تحركها قلوب قست، وضمائر لا تعرف إليها الرحمةُ طريقاً، وأيد لا يمسّها طهر، تدور في الأرجاء، تقتحم المدن، تجوب الأرياف، وتنذر بخطر داهم، تتلبد السماء بغيوم سود تتوعد بفيضان يجتاح البلاد، يقتلع الشجر، ويقتل البشر، ويفتّت الحجر، ويهلك الحرث، ويحوّل سهولها الخضراء قاعاً صفصفاً.

يتعاظم غول الفساد ويتحكّم أربابُه بعيش العباد، تضيق الأحوال وتتأزّم، وليس أمام العصافير إلّا الفرارُ طوعاً أو كرهاً، فتقفر البلاد بعد أن يغادرها الذين يهاجرون أو يُهجّرون بحثاً عن وطن معافى يؤمّن أدنى شروط الرفاهية، وحقوقهم الإنسانية في الحياة والحرية والعمل كأناس أحرار لهم كرامة، ونفوس عزيزة يعزّ عليها أن تُذلّ أو تُهان.

الوطن عشقٌ، عشقٌ للأهل، للأصدقاء، للأصحاب، لزملاء الدراسة والعمل. الوطن عشرةٌ طيبة، ولقمة عيش هنية، وكرامة بشرية. الوطن بناسه لا بالتراب والحجارة، ما أتعس الوطن إن خسر ناسه!.

وطن يصبح طارداً لسواعد أبنائه الشابة لتبني غيره، ويخسر خيرة شبابه وقواه المنتجة متناسياً أن قوته في شبابه لا في الثروات المادية، وأن أفضل استثمار يكون في عقولهم وسواعدهم، ما أتعسه من وطن!.

ما الوطن؟! عندما لا يحقق الوطن أحلام أبنائه، ويضيق العيش فيه، ويصبح نصف شبابه فاقدين الأمل بالمستقبل، يتطلّعون إلى آفاق يحلمون بها، فيضطرون أن يفرّوا على جناح المهالك مخاطرين بفقد أرواحهم في لجج البحار أو سهوب الرمال في الصحاري أو أدغال البراري، يتعرضون إلى الحرّ صيفاً، والقرّ شتاءً، وأنياب الضواري البحرية والبرية، ولسع الأفاعي والعقارب، لا غذاء ولا ماء إلا ما تيسّر من فتات أو حشرات أو مساعدات بسيطة تقيهم من الموت ريثما يصلون – إن وصلوا سالمين – إلى مبتغاهم الذي يأملون!.

عالمنا اليوم يغض الطرف عن هؤلاء الشباب الفارين بجلودهم، الحالمين بالحياة والحرية وعيش كريم يغنيهم شرّ الجوع، ويرفع عن كواهلهم المذلّة.

والهيئات الدولية تقف أحياناً كثيرة مكتوفة الأيدي عن إيجاد حلول لمشكلاتهم وعلى رأسها الأمم المتحدة نفسها التي أعلنت في ميثاقها الحفاظ على حياة الإنسان وكرامته، ومحاربة الفقر، وأكدت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الشرعة الدولية، وما تلاها من المعاهدات، والمواثيق الدولية على حماية الإنسان، وحفظ حقوقه الإنسانية الأساسية في الحياة والحرية والعمل والعيش الكريم، وتكوين الجمعيات والنقابات، وحقّه في الزواج وتكوين الأسرة، والمحاكمة العادلة علانية، وحقّه في عالم خالٍ من السلاح النووي، ومن شرور الحروب ومآسيها ليعيش بأمن ومحبة وسلام وعيش رغد، فهل تحقق الأمم المتحدة خطّتها المستدامة التي وعدت بها؟!.

والسؤال الآن: إلى متى يبقى عالمنا والأمم المتحدة ومجلس أمنها يغضّون عمّا يجري من عنف يجتاح دولاً وشعوباً نامية فيتسبب بإفقارها، وخرابها، وحرمانها من مواردها… فما أتعسه من عالم لا يوقف العنف، ويغضّ عن إزهاق روح الإنسان؟!.

تصرفات الدول الكبرى وسياساتها النابعة من مصالحها الذاتية على حساب الآخرين خير دليل على أنها ما زالت تتحكم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ تشكيلهما، وتدير دفة سفينة العالم على هواها، وأنها مازالت – ونحن في الألفية الثالثة – تستمر في خيار شرعة الغاب، فتنهب خيرات الشعوب المستضعفة ومقدراتها بطرق شتّى دونما وازع من ضمير أو رادع أخلاقي.       

عالم هكذا – تتسيّد فيه القوة، ويأكل فيه قويُّهُ ضعيفَه – ما أتعسه من عالم يغمض عن انتهاك الإنسان لحقوق أخيه الإنسان!!.

إننا – ونحن نودع عام 2021 وما حصل فيه من مآسي النزاعات في مناطق عديدة، وكوارث طبيعية في مناطق أخرى أقضّتْ مضاجع البشرية وأرهقتها – نقف على عتبة عام جديد لا ندري هل يبشر بخير للشعوب المستضعفة؟! وهل يحمل في طياته أملاً لزهاء (282) مليون مهاجر وأكثر ممّن هاجروا وهُجِّروا من ديارهم بعودة آمنة وميمونة؟! وهل تنمو في حقوله زهور إنسانية تسعى لوقف وباء العنف وإشاعة سلام عالمي تحلم به البشرية، وتعمل من أجل تحقيقه المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ومنظمات إنسانية عالمية كاليونسكو واليونيسيف، ومنظمات دولية أخرى؟!

ومع كل ما حصل ويحصل من آلام، هنا وهناك، ألا يحق لهؤلاء العاملين في الحقل الحقوقي الإنساني أن يرفعوا الصوت مدوياً لوقف العنف، ونزع الأسلحة الفتاكة خصوصاً الأسلحة النووية التي تهدد حياة البشرية بالفناء، ومحوها من فوق البسيطة؟!

إنّ معشر الحقوقيين الإنسانيين حالمون، لن يتنازلوا عن حلمهم، ولن يفقدوا الأمل بمستقبل ترفرف فيه راياتُ السلام في أرجاء المعمورة. إن التغيير قادم لا محالة، فهو سنّة الحياة، والأجيال تتوالى، والدعوة للسلام تزداد انتشاراً، والحلم يستمر، وما يزال التفاؤل عامراً في النفوس، ويتجدد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني