عندما تفقد البوصلة الاتجاه
صادفته خارجاً من القصر العدلي مكفهرّ الوجه، مقطّب الجبين، يقطر التشاؤم من قسماته.. نظره في الأرض وكأنه يتقصّد عدّ بلاطات الرصيف التي ما زالت سالمة لم تنكسر. بادرته: صباح الخير أبا جواد.. رفع رأسه، نظر في عيني.. أهلاً.. يسعد صباحك. نطق بها جافة كرغيف غير ناضج مما يباع علفاً.. هزّني منظره وجوابه..
– ما بك؟ أهناك ما لا يسر؟
– يلعن أخت الدنيا.. هل بقي فيها ما يدعو إلى المسرّة؟
– مهلاً.. مهلاً، ماذا أصابك اليوم؟
– شيء لا يصدق، يجعل الدم يغلي، ويفور كما الحليب
– هوّنها.. تعالَ نجرجر أقدامنا إلى البيت..
– اتركني أهيم قليلاً في الشوارع، أو أجلس في الحديقةِ القريبة
– لماذا؟
– أزيح عن صدري ما أثقله..
– ما هو؟
– هناك ما يدفع المرء أن يفقد صبره
– يا رجل! لن أدعك وحيداً.. تعالَ معي.. أمسكت يده.. شددته.. وسرنا باتجاه البيت.. نحن أخوة.. قل ما الذي يزعجك.. فضفض..
– دعنا نجلس في الحديقة.. لا أطيق الجدران تحيط بي.. أكاد أختنق.. مال إلى دكان.. اشترى علبة سجائر.. تعجّبت مما فعل.. لم أسأله.. منذ سنوات أقلع عن التدخين بناء على نصيحة الطبيب.. تمشّى الفأر في تلافيف دماغي.. ما الذي دفع به إلى هذه الحال؟
جلسنا في ظلّ شجرة كينا على مقعد حجري. نفث دخان سيجارته على مهل نحو الأعلى وكأنه يزفر طارداً الضيق الذي يجثم على صدره ليتخلّص من آثاره. قلت: ها نحن جئنا إلى مكان فسيح بلا جدران: أشجار، وورود، وخضرة تزيل الغم، وتبهج النفس، فهل لك أن تتكلم وتكنس التشاؤم عن نفسك؟ وما الذي جعلك تعود لعشرة السيجارة بعد أن أقلعت عنها منذ سنوات؟ تلفّتَ حوله.. حدّق في وجهي.. أردتُ أن أسحب رأس خيط معاناته.. هات ما عندك؟ مصّ من سيجارته ما ملأ جوفه بالنيكوتين.. نفثه متمهلاً.. تنهّد.. خرجت من بين شفتيه غصباً.. لا تشغل بالك، سأحدثك فيما بعد
– لن أنتظر.. هيّا.. قل
– ليتك تعفيني الآن
– لن أعفيك.. أريد معرفة ما أزعجك
– القصة: كان لي أمر في القصر العدلي.. شاهدت شاباً وشابة وأهلهما، طلبا مني أن أشهد على واقعة زواجهما.. سألتهما هل أنتما راغبان بالزواج؟ قالا: نعم، ومتفقان على كل شيء؟ نعم، بارك الله لكما.. ناولني قلماً.. وقعت… دعوت لهما بالرفاء والبنين.. ابتسما.. قال الشاب: بالرفاء، نعم.. وقاطعته الشابة: أمّا البنين فلا. عبارة هزّتني فقلت لماذا؟ أليست غاية الزواج الإنجاب؟
– نعم، ولكن ألا ترى، يا عم، حالة البلاد وغياب المواد.. إنجاب الأولاد يعني الحليب، والحفاظات، وزيارة الطبيب، والأدوية، و.. و.. و.. نحن لا مال لدينا.. عسانا نعيش بأنفسنا.. فلماذا نتعس غيرنا؟.
– قلت: يا ولدي الحياة لا تستمر، والكون لا يعمر إذا عزفنا عن الإنجاب.. نحن ننجب للحياة وللبلاد.
– قالا: كم ولد لديك؟
– خمسة.
– أين هم؟
– مسافرون
ضحكا.. استفزاني بقولهما: مسافرون!!. ألهذا أنجبت؟!!.. مسافرون!!، نحن لن ننجب مسافرين.. منذ تحاببنا وقررنا الزواج أتفقنا على تعقيم أنفسنا.. لن ننجب أطفالاً جوعى.. ما ذنب طفل لا نستطيع أن نؤمّن له أدنى شروط العيش.. بلاد لا تطعم أطفالها لماذا ننجب فيها؟ لا نريد أن نتحمّل وزر طفل لا نطعمه.. فلنعش بلا همّ.
– ما تقولانه انتحار مخطط ومؤجل.. غاية الإنسان الاستمرار، فكيف نستمر دون أن نتكاثر؟
– يا سيدي، نحن قررنا الانتحار
– قلت غاضباً: لو عرفت ذلك ما شهدت على زواجكما.
– ضحكا.. لا تغضب يا عم.. تفضل حلاوة عقد زواجنا.. رفضت، وخرجت ألعن ساعة وقّعت..
ضغطت أصابعه على العلبة.. أخرج لفافة.. وبيد مرتجفة أشعلها
– هل روّضتِ السيجارة غضبك؟
– يا أخي، كادا يفجراني، إلى أين نسير؟ وماذا نحن فاعلون؟!
– على رسلك.. إنه نزق الشباب.. ربما يمزحان..
– يبدوان جادَين ومصممَين على ذلك
– هوّنها.. إنهما محقان في رؤيتهما.. من أين يأتيان بالحليب والدواء و.. و.. و… أم الولد يأتي ويأتي رزقه معه؟
– لا يموت إنسان من جوع
– لكنّه يموت ألف مرة من القهر والذل عندما يرى ولده مريضاً، أو يتضوّر جوعاً، ويرتجف من برد، ولا حول له ولا طول..
أشعل سيجارة من سابقتها.. وساهماً راح يرقب دخانها وهو يتصاعد..