شمشون أصفهان
العالم كلّه يعيش حالة ترقّب وانتظار تولّي الإدارة الأمريكيّة الجديدة بقيادة دونالد ترامب، وكل الدول والحكومات تعيد رسم سياساتها وفقاً لمؤشرات اتجاهات السياسة الأمريكية القادمة على المستوى الاقتصادي والعسكري والسياسي والتعاون الدوليّ التي تُعبِّر عن التحولات الجوهريّة في السياسة الخارجيّة الأمريكيّة وبالتالي انعكاسها على خارطة العلاقات الدوليّة مع الولايات المتحدة الامريكيّة إمّا بإعادة رسم خارطة التحالفات أو ترتيب درجات قرب وبُعد الأصدقاء، وإعادة تقييم العداوات، وهذا ما تصدّقه أو تكذِّبه قرارات الإدارة الامريكيّة الجديدة، وبالتالي فكل ما يُبنى عليه من تصورات مسبقة عن توجهات الدول هو نتيجة تحليلات مبنيّة على عدّة معطيات أوليّة منها شخصيّة الرئيس ترامب، وشخصيّة أعضاء إدارته الجديدة، والمواقف المسبقة المعروفة عنهم تجاه عدّة قضايا، وما يخصّنا هو مدى أثر تشكيلة الإدارة الأمريكيّة على المنطقة العربيّة وخاصّة في سورية ولبنان وفلسطين واليمن، ولارتباط هذه المناطق بالصراع العربي – الإسرائيلي، وارتباطها بالمشروع الإيراني التوسّعي، وارتباطها بالمصالح الروسيّة في المنطقة سنتكلّم عن العلاقات الروسيّة الإيرانيّة في المنطقة ومستقبلها في ظل الوضع الراهن.
العلاقات الإيرانيّة – الروسيّة تاريخيّاً هي علاقات متوترة بسبب الحروب والصراعات الممتدة عبر تاريخ روسيا حيث كانت روسيا تستبيح الأراضي الإيرانية في الوقت الذي تشاء وتتدخل وتتحكّم في شؤونها الداخلية، الأمر الذي ترك أثراً نفسياً ومعنويّاً معادياً لروسيا في الذاكرة التاريخية الإيرانية وما زال هذا الأثر يُلقي بظلال الشك وعدم الثقة بالسياسة الروسيّة رغم نمو العلاقات الإيرانية – الروسية في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي فكّك بعضاً من مخاوف ايران من مطامع روسيا التوسعيّة من خلال منح الدول الإسلامية التي كانت ضمن الاتحاد الاستقلال، كما ساهمت روسيا في تعزيز هذه العلاقات من خلال إعادة إعمار إيران بعد الحرب العراقيّة – الإيرانية، وبناء مفاعل بوشهر النووي بعد انسحاب الحكومة الالمانيّة.
وتتّصف العلاقات الإيرانية – الروسية بطابع إستراتيجي لا يرقى إلى درجة التحالف الإستراتيجي، تقوم على عدة قواسم مشتركة في منطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
ومن هذه القواسم المشتركة:
القاسم المشترك الاقتصادي: الذي يتجلّى بحجم التبادل التجاري السنوي الثنائي البالغ حوالي ملياريْ دولار، ومشاريع النقل الدوليّة العملاقة “ممر الشمال – الجنوب”، ويتكون من خطوط بحرية وبرية وسكك حديدية، ويربط المحيط الهندي ومنطقة الخليج مع بحر قزوين مروراً بإيران، ثم يتوجه إلى سان بطرسبرغ الروسية ومنها إلى شمال أوروبا. وكذلك مجال الطاقة حيث تمتلك إيران وروسيا احتياطات هائلة من الغاز والنفط، وهما من كبار مصدري هاتين الطاقتين، وتسعيان لتعزيز التعاون فيهما وفي الطاقة النووية.
القاسم المشترك الإقليمي والدولي: التعاون الإقليمي بين إيران وروسيا في منطقة الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين، وارتباطها الوثيق بالأمن القومي الروسي والإيراني بحكم حدودها المشتركة مع المناطق الثلاث المحيطة بروسيا.
القاسم المشترك العداء الغربي: يجمع روسيا وإيران تحديّاً مشتركاً للنفوذ والوجود العسكري الغربي الذي يهدف إلى تطويق روسيا ومحاصرتها شرقاً عبر التحالف مع الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي وتشترك إيران بنفس الهواجس والمخاوف من التمدّد الغربي الى هذه المنطقة القريبة منها ومن بحر قزوين.
أما علاقتهما فيما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط: يكمن بالهدف الاستراتيجي الروسي وهو البحث عن موطئ قدم في المياه الدافئة شرق المتوسط وقد تحقّق لها ذلك من خلال تملّك قاعدة حميميم الجويّة وميناء طرطوس البحريّ، وحقول الغاز غيرها من مقدرات اقتصادية في سورية عبر عقود إيجار طويلة الأمد، وقد تذرّعت روسيا لتحقيق ذلك ولتبرير غزوها العسكريّ للسورية بذريعة حماية الأقليّات من خطر الإرهاب وخاصة حماية ’’المسيحيّين الارثوذوكس‘‘ باعتبار أن روسيا هي حاميّة الكنيسة الأرثوذوكسيّة ورعاياها في العالم.
وبهذا تختلف الدوافع الإيرانيّة للغزو العسكري في سورية والذي كان أسبق من الغزو الروسي الذي يأتي في إطار المشروع الإيراني ’’الفارسي‘‘ التوسّعي في البلاد العربيّة بذريعة حماية المقدسات والعتبات الشيعيّة، وذريعة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، منذ تولّي الملالي الحكم في إيران سنة 1979، والذي تضمن روسيا أمنه باعتبارها أول دولة في العالم تعترف بالكيان الصهيوني، وهذا الالتزام التزام تاريخي وهو من ثوابت السياسة الروسيّة.
وإنّ العلاقة بين روسيا وإيران في سورية هي علاقة تعاون عسكري ميداني مشترك للبلدين للدفاع عن مصالحهما المشتركة، حيث تعتمد روسيا على المليشيات الشيعية الإيرانية والحليفة لها في فرض سياسة الأمر الواقع في سورية عبر غرفة العمليات المشتركة التي تضم قيادات الحرس الثوري الإيراني وقيادات الميليشيات الطائفيّة المحليّة والقوات الروسية والقوات النظاميّة السورية.
آفاق العلاقات الروسيّة الايرانيّة في سورية:
ترتبط العلاقات الإيرانيّة – الروسيّة بثلاث عوامل وهي عوامل متغيّرة ليست ثابتة وهي القواسم المشتركة التي ذكرناها أعلاه، واستناداً الى الخلفيّة التاريخيّة بين الإيرانيين والروس التي تقوم على عدم الثقة بالسياسة الروسية كونه من المعروف عن روسيا سرعة وسهولة التخلي عن حلفائها وأصدقائها، ولاختلاف الدوافع والأهداف في تدخلّهما في بعض الملّفات المشتركة، وعدم معاملة روسيا إيران بنفس درجة معاملتها عند عقد الاتفاقيّات المشتركة مع مجموعة الدول الصديقة وخاصّة تلك الدول الواقعة في آسيا الوسطى والقوقاز وقزوين، كما تلعب السياسة الروسيّة المتوازنة في علاقاتها مع الدول العربية وتركيا التي لا تصبّ في صالح إيران حيث تتعارض مع طموح إيران بأن تكون القوة الإقليمية الوحيدة العظمى في المنطقة.
وعليه وحيث أن أمن إسرائيل بالنسبة لروسيا هو من الثوابت الروسيّة التي لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف.
وحيث أن دوافع الغزو الروسي لسورية تختلف جذريّاً عن دوافع الغزو الإيراني، وأن أهداف روسيا في سورية قد تحقّقت بينما ما زالت الأهداف الإيرانيّة مُعلّقة على تحقيق الاستقرار في سوريّة والمنطقة، وهذا الاستقرار لن يقوم ما دام النظام السوري قائماً وبالتالي فإن مصير الأهداف الاستراتيجيّة الإيرانيّة مرهون بمصير بشار أسد ونظامه وحيث أن لِجام بشار أسد بيد بوتين الأمر الذي يجعل المشروع الإيراني مهدّد بالفشل ومن ثم الزوال من المنطقة. وحيث أنّ العلاقات الروسيّة – الغربيّة والعلاقات الإيرانيّة – الغربيّة هي المحك الحقيقي لفشل أو نجاح المشاريع المتعدّدة في المنطقة والتي انحصرت اليوم بالمشروع الصهيوني القائم على توسيع الصراع وبالتالي توسيع مناطق النفوذ لتشمل مناطق النفوذ الإيراني في المنطقة، والمشروع الإيراني الذي يسعى للحفاظ على مناطق نفوذه في العراق وسورية ولبنان واليمن، وحيث أن أدوات المشروع الصهيوني هي القوة والدعم الدوليّ غير المحدود، وأدوات المشروع الإيراني هي ميليشيات حزب الله والميليشيات الطائفيّة المحليّة، الميليشيات الإيرانية التابعة للحرس الثوري في لبنان وسورية والعراق واليمن، وحيث أن المبرر الذي يسوقه المجرم نتنياهو للقيام بالعدوان وارتكاب جرائم الإبادة في فلسطين وتدمير لبنان وما تبقّى من البنى التحتيّة في سورية هو ذريعة القضاء على مصادر تهديد الأمن القومي الإسرائيلي المتمثّلة بأذرع إيران في المنطقة.
وحيث أن الولايات المتحدة تدعم وبشكل مطلق المشروع الصهيوني سواءً من خلال إدارة بايدن أو الإدارات الامريكيّة السابقة أو إدارة ترامب القادمة.
وحيث أن من روسيا وتركيا وإسرائيل وعدد من الدول العربيّة أبدت تفاؤلاً بقدوم الرئيس ترامب وإدارته الجديدة سيما وقد عبّر عن نيّته بإيقاف جميع الحروب التي تلقّفتها روسيا وأوكرانيا مبديتان استعدادهما لوقف الحرب وتحقيق السلام فيما بينهما ما سينعكس حكماً على العلاقة الروسيّة – الإيرانيّة لزوال القاسم المشترك الأهم وهو ’’مواجهة الغرب‘‘.
وحيث أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وإيران يمكن تعويضه بزيادة التبادل التجاري بين روسيا والغرب بمقدار عشرات الأضعاف وبالتالي لا يمكن أن يقف هذا العامل عائقاً أمام تخليّ روسيا عن إيران وبالتالي سقوط القاسم المشترك الاقتصادي.
وعلينا ألّا ننسى أن إيران هي عامل فوضى وعدم استقرار في المنطقة وبالتالي تشكّل تهديداً للسلم والأمن الدوليّين الذي أصبح الحفاظ عليه همّ المجتمع الدولي لاسيما بعد العدوان وجرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين، والعدوان على لبنان، واستهداف الأراضي السوريّة، وأن عودة الاستقرار للمنطقة وبالتالي للأمن والسلم الدوليّين لن يتحقق إلّا بالقضاء وتفكيك أذرع إيران في المنطقة وانكفاء إيران إلى داخل حدودها، وهذا سيكون نهاية الحلم الإيراني ’’الفارسي‘‘ والذي لا اعتقد أن تتنازل عنه بهذه السهولة ما سيجعلها تعمل على تعميم الفوضى على الساحات كافة وهو المعنى الحقيقي لمفهوم ’’توحيد الساحات‘‘ الأمر الذي يجعلها أكثر قدرة على التحرّك، وبالتالي إغراق الروس والأمريكيين والأتراك وحلفائهم في سورية ما يتيح لها القدرة على مساومتهم على إخراجهم من هذا المستنقع مقابل تسليم لجام بشار أسد ورفع قبضة روسيا عنه، ومن أدواتها الإيعاز لكل عملائها في كل مفاصل الدولة السورية بالعبث، والقيام بالاغتيالات، أو التفجيرات في مناطق النفوذ الروسي والأمريكي والتركي والإيعاز للميليشيات الإيرانية والميليشيات الطائفيّة المحليّة والميليشيات الفلسطينيّة في سورية للصدام مع الكيان الإسرائيلي في الجولان، الأمر الذي سيخلق فوضى عارمة تستطيع إيران من خلالها مساومة المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكيّة وأوروبا لتحقيق مصالحها أو الحفاظ على ما حقّقته.
لذا نحن أمام مرحلة جديدة قد تُبيّن ملامحها زيارات المسؤولين الإيرانيين الأخيرة إلى دمشق وخاصة مستشار الأمن القومي ووزير الدفاع هي مرحلة ’’فوضى الساحات‘‘ كآخر خيار لإنقاذ النظام الإيراني ونظام أسد، على مبدأ شمشون ’’عليّ وعلى أعدائي‘‘ الأمر الذي يُحتّم علينا الاستعداد لهذا السيناريو الخطير.