سوريتي هويتي، والبقية تأتي
مقدمة: الهوية السورية وأبعادها المجتمعية
الهوية السورية ليست مجرد تصور ثقافي؛ بل هي جوهر يعكس تاريخاً متجذراً وثقافة نابضة بالحياة تشكلت عبر حضارات متعاقبة وأجيال متتالية. تحمل هذه الهوية أبعاداً متعددة تجسد قيم التعايش والانفتاح الثقافي، لكنها تواجه تحديات كبرى تهدد بتماسكها، نتيجة تأثيرات السياسة والتحزبات العرقية والأيديولوجيات الضيقة. وفي هذا السياق، يُصبح للتعليم والمجتمع دور حيوي في بناء الوحدة الوطنية، عبر تعزيز قيم المواطنة والمساواة وتثمين التقاليد كأداة تعزز الاندماج بدلاً من التفكك.
يسلط هذا المقال الضوء على أهمية الهوية السورية ودورها المحوري في توطيد المجتمع، مع التركيز على قيمة قبول التنوع واحترام التعددية الثقافية كأساس يعزز الترابط الوطني ويصون تماسك المجتمع.
تحليل التحديات أمام الهوية السورية: التحزب والانقسام الأيديولوجي
تتعرض الهوية السورية لضغوطات داخلية متعددة، وأهمها النزعات الحزبية والانقسامات الأيديولوجية. فقد تسببت الصراعات المتواصلة وغياب رؤية واضحة لحل دائم يُنهي الوضع الراهن — المتسم بالاستنزاف المستمر ومزيج من “اللاحرب واللاسلم” — في تراجع الروابط بين السوريين. تحوّل الولاء للأحزاب والتكتلات العرقية والاثنية إلى عقبة تحول دون تعزيز الوحدة الوطنية. إن الهوية السورية، التي طالما استمدت قوتها من تنوعها الثقافي والاجتماعي، أصبحت اليوم تواجه تحدياً يتمثل في محاولات اختزالها في أطر أيديولوجية ضيقة، مما أضعف مرونتها وأثر سلباً على قدرتها على احتواء جميع السوريين تحت لوائها.
أولاً: الأسباب التاريخية وتأثيرها على الهوية السورية
تعد سوريا نقطة التقاء تاريخية للحضارات المتعاقبة، إذ تعاقبت عليها شعوب وثقافات مختلفة عبر العصور، بدءاً من الآراميين والفينيقيين إلى الرومان والبيزنطيين، وصولاً إلى الإسلامية والعثمانية. هذه الخلفية التاريخية الغنية والمتنوعة منحت سوريا هوية متعددة الأبعاد، بيد أنها خلقت أيضاً تنوعاً يمكن أن يتحول إلى تحدٍّ عند الأزمات.
وفي أوقات التوترات، يُستغل هذا التنوع من قِبل بعض القوى الداخلية والخارجية، مما يسهم في تعزيز النزعات الطائفية أو العرقية أو الدينية بدل تعزيز الانتماء الوطني. لذا، يمكن اعتبار هذه الخلفية التاريخية متعددة الأوجه من العوامل التي تضيف تعقيدات كبيرة أمام بناء هوية وطنية متماسكة وشاملة.
ثانياً: العوامل السياسية وأثرها على الهوية الوطنية
ساهمت السياسات الحكومية المتعاقبة في سوريا بشكل كبير في إضعاف الهوية الوطنية. فقد اعتمدت الحكومات على سياسات مركزية وقومية متأثرة بأيديولوجيات خاصة أو موجهة لخدمة توجهات معينة، ما أدى إلى تهميش بعض الشرائح المجتمعية وإضعاف الشعور بالانتماء الوطني. فبدلاً من تحقيق الوحدة، دفعت هذه السياسات بعض الفئات إلى الشعور بالتهميش والإقصاء، مما ساعد في تصاعد انقسامات حادة على أسس عرقية أو طائفية.
إضافة إلى ذلك، فإن السياسات المتبعة لم تعزز الهوية الوطنية الجامعة بالقدر الكافي، حيث أصبحت هذه السياسات، في بعض الأحيان، وسيلة للتلاعب بالانقسامات الداخلية بهدف السيطرة السياسية، ما جعل الانتماءات الأيديولوجية أو الطائفية تتفوق على الانتماء الوطني. يمكن القول إن السياسات الحكومية لعبت دوراً رئيسياً في تعقيد الهوية الوطنية وتعزيز الهويات الفرعية على حساب الهوية السورية الشاملة.
ثالثاً: العوامل الاجتماعية والاقتصادية وتأثيرها على الهوية
تُعد العوامل الاجتماعية والاقتصادية من أهم المحركات التي تؤثر على الهوية السورية، خاصة مع تفاوت مستويات المعيشة وتباين الأوضاع الاقتصادية بين مختلف المناطق. فقد زادت الأزمات الاقتصادية من التفاوت الاجتماعي، مما أدى إلى شعور شرائح من المجتمع بالظلم والتهميش، ما انعكس سلباً على الروابط المشتركة التي تشكل أساس الهوية الوطنية.
إضافة إلى ذلك، أسهم النزوح والهجرة القسرية والتغييرات الديمغرافية الناتجة عن الصراعات الداخلية في إحداث تغييرات جذرية في التركيبة السكانية، إذ أجبر العديد من السوريين على الانتقال إلى بيئات جديدة، مما عزز لديهم انتماءات ثقافية واجتماعية ضيقة، تُحاكي روابطهم الأصلية بدلاً من تعزيز الهوية الوطنية الشاملة. وقد أصبحت الهويات الفرعية، كالمحلية أو العرقية، هي الإطار الذي يحدد الهوية عند البعض، مما يزيد من تعقيد مسألة بناء هوية وطنية جامعة.
رابعاً: الهوية في ظل التكنولوجيا – تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الهوية الوطنية
أصبحت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في العصر الحديث أدواتٍ قويةً تؤثر بشكلٍ كبير على تشكّل وتطور الهوية الوطنية، ويبرز ذلك بوضوح في الحالة السورية. فقد أتاحت هذه الوسائل للسوريين، سواء داخل البلاد أو خارجها، مساحة للتعبير عن آرائهم وهوياتهم الفردية والجماعية، إضافةً إلى تمكينهم من مناقشة القضايا الوطنية والحديث عن تجاربهم الحياتية اليومية في سوريا. ومع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل، باتت المعلومات أكثر سهولة للوصول، مما ساعد في تعزيز الانتماء الوطني لدى البعض عبر متابعة الأحداث الوطنية والمشاركة في قضايا البلاد.
غير أن لهذا التقدم التكنولوجي أثراً مزدوجاً؛ ففي حين أنه يعزز من الوحدة لبعض الأفراد، فإنه يسهم، في المقابل، في تكريس الانقسامات إذا ما استُخدم بشكل يروج لخطاب الكراهية أو يعزز الصور النمطية السلبية عن بعض المكونات أو الأفكار. وبهذا يمكن القول إن الهوية الوطنية في ظل التكنولوجيا تبقى عرضةً للتحولات الدائمة؛ إذ تعتمد إلى حدٍ كبير على مضمون الخطاب الذي يُبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومدى القدرة على تجاوز الانقسامات وتعزيز المشترك الوطني.
من هنا، يلعب الإعلام الرقمي دوراً حاسماً، حيث يجب أن يكون دور هذه المنصات إيجابياً في بناء وتدعيم الهوية السورية الجامعة عبر تقديم المحتوى الذي يرسّخ الوحدة الوطنية، ويعزز من تلاقي الأطياف المختلفة تحت إطار الهوية الوطنية الواحدة، بعيداً عن الأطر الأيديولوجية أو الطائفية.
خامساً: الهوية في المنفى – تحديات الهوية الوطنية للسوريين في الخارج
إن تجربة المنفى والهجرة القسرية التي مر بها ملايين السوريين خلال العقد الماضي شكلت تحولاً عميقاً في إدراك الهوية الوطنية وكيفية التعبير عنها. يعيش السوريون في الخارج هويتهم بطريقة مختلفة، حيث تفرض عليهم المجتمعات المستضيفة تحديات جديدة لإثبات هويتهم السورية ضمن سياق ثقافي مختلف. بالنسبة للعديد من السوريين، يُعد الحفاظ على الهوية الوطنية والتقاليد تحدياً يتطلب توازناً بين الحفاظ على الهوية الأصلية والتكيف مع المجتمع الجديد.
في بلدان المنفى، يلجأ السوريون إلى تأسيس مجتمعات صغيرة تنقل ملامح من ثقافتهم وتقاليدهم، وهو ما يساعدهم على الحفاظ على هويتهم السورية وحمايتها من الاندماج الكامل في المجتمعات المضيفة. غير أن الهويات المحلية قد تصبح أكثر وضوحاً لدى البعض، حيث تصبح الانتماءات الفرعية وسيلة للحفاظ على الشعور بالانتماء.
كما أن للجيل الجديد من السوريين الذين نشأوا في الخارج تحديات خاصة؛ إذ قد يجدون أنفسهم في صراعٍ بين الهوية السورية التي تمثلها الأسرة والثقافة المحيطة، وبين هوية جديدة نشأت بفعل التفاعل اليومي مع المجتمعات المستضيفة. ولهذا، يصبح دور الأهل والمجتمع السوري في الخارج أساسياً في غرس الهوية السورية وتعزيزها دون تعارض مع الهوية المكتسبة في بلاد المنفى، مما يعكس إدراكاً أكبر للهوية بوصفها متعددة ومتجددة.
في المحصلة، تفرض تجربة المنفى إعادة تعريف للهوية السورية، حيث تتجاوز التعريفات الثابتة إلى فهم ديناميكي يعزز من الانتماء الوطني حتى في المجتمعات الجديدة. ويتجلى ذلك من خلال المبادرات الثقافية والتعليمية التي ينظمها السوريون المغتربون للحفاظ على لغتهم وثقافتهم، والتي تسهم في الحفاظ على الهوية الوطنية السورية بوصفها إطاراً جامعاً حتى خارج حدود الوطن الأم.
تبرز هذه الأبعاد الإضافية تعقيد مفهوم الهوية السورية في ظل التطورات الراهنة؛ فبينما تلعب التكنولوجيا دوراً مزدوجاً في تشكيل الهوية الوطنية من خلال تعزيز الروابط وتكريس الانقسامات، تضيف تجربة المنفى بعداً آخر للتحدي، حيث يعيش السوريون هويتهم بطرق متنوعة في مجتمعات جديدة. ويظهر من ذلك أن الحفاظ على الهوية السورية يتطلب وعياً متزايداً بضرورة التماسك الوطني والتنوع الثقافي، واحتضان الهوية بوصفها إطاراً شاملاً يتسع للجميع في الداخل والخارج.
نحو هوية وطنية شاملة وجامعة
تواجه الهوية السورية تحديات نابعة من تفاعل معقد بين العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية، فبينما يُعد التنوع التاريخي في سوريا مصدراً للثراء والقوة، يمكن لهذا التنوع أن يتحول إلى مصدر للانقسام في ظل الأزمات السياسية والتدخلات الخارجية، إلى جانب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تفاقم الانقسامات.
ولتجاوز هذه التحديات، من الضروري صياغة سياسات وطنية شاملة تهدف إلى تعزيز الوحدة المجتمعية وترسيخ الهوية الوطنية بعيداً عن الأيديولوجيات الضيقة والانتماءات العرقية المحدودة. ويجب أن تشمل هذه السياسات تطوير آليات فعّالة للحوار بين مختلف مكونات المجتمع السوري، بحيث تُتيح للجميع المشاركة في بناء مجتمع يتقبل التعددية الثقافية والعرقية ويعترف بأهمية التنوع كجزء لا يتجزأ من الهوية السورية.
إن بناء سوريا المستقبل يتطلب تعزيز هوية وطنية تتجاوز الحدود الضيقة، وتحتوي كافة السوريين تحت مظلة جامعة، تُعلي قيم الانتماء الوطني والانفتاح على الآخر. بذلك، تُصبح الهوية السورية إطاراً مشتركاً للتعايش السلمي، وجسراً يصل مختلف الأطياف نحو مستقبل أكثر تماسكاً واستقراراً.
دور التعليم في تعزيز الهوية السورية والوحدة الوطنية
يمثل التعليم حجر الزاوية في ترسيخ الهوية السورية وتعزيز الانتماء الوطني، بعيداً عن التأثيرات السلبية للتحزبات السياسية والانقسامات العرقية. ولتحقيق ذلك، يتطلب النظام التعليمي في سوريا نهجاً موحداً يعزز الوحدة المجتمعية والوطنية في جميع المناطق، مع التركيز على القيم المشتركة التي تجمع السوريين. ينبغي أن تتبنى المناهج الدراسية مفاهيم المواطنة والتسامح وقبول الآخر، وتبتعد عن الأيديولوجيات التي تمزق النسيج الاجتماعي، لتسهم بدلاً من ذلك في بناء مجتمع متماسك يعكس روح سوريا المتنوعة والغنية بثقافاتها.
إن إعادة تصميم المناهج التعليمية بحيث تركز على الثقافة الوطنية وقيم التعاون والتفاهم المتبادل يعد خطوة أساسية نحو غرس الشعور بالانتماء العميق لدى الأجيال المقبلة، مما يعزز تماسك المجتمع السوري بمختلف مكوناته ويضمن وحدة وطنية راسخة للمستقبل.
العادات والتقاليد: عامل إثراء ووحدة لا تفرقة
تشكل العادات والتقاليد ركيزة أساسية في الهوية السورية، فهي تمثل غنى المجتمع وليست سبباً للتفرقة. حيث إن التنوع الثقافي والعادات المختلفة بين المدن والمناطق السورية تضيف إلى النسيج المجتمعي بعداً ثقافياً وفكرياً مميزاً. من الأهمية بمكان أن ينظر السوريون إلى هذه العادات والتقاليد على أنها مصادر إثراء وتكامل، لا على أنها مبررات للفصل والتقسيم. فالتقاليد تمثل جزءاً من هوية المجتمع، وتحمل قيماً عميقة تعزز من انتماء الأفراد لوطنهم، وتشجعهم على احترام هذا التنوع بوصفه جزءاً من النسيج الوطني.
التعددية الثقافية والعرقية: دعامة أساسية للوحدة السورية
إن الاعتراف بالتعددية الثقافية والعرقية وقبول الآخر هو السبيل لتعزيز الهوية الوطنية التي تحتضن الجميع دون استثناء. فالتعددية يجب أن تكون مصدراً للقوة والوحدة، بدلاً من أن تصبح سبباً للصراع والتنافر. وفي هذا السياق، يعد احترام التعددية عنصراً ضرورياً لبناء مجتمع مستقر، حيث يصبح قبول الاختلاف وتقديره جزءاً أساسياً من الهوية الوطنية. ويُعَدّ هذا النهج أكثر إلحاحاً في سوريا اليوم، إذ يجب أن يكون قبول الآخر واحترام تنوعه الثقافي والديني أساساً لبناء مجتمعٍ يسوده التعايش والتفاهم.
خاتمة
إن الهوية السورية هي رمز استمرارية وعنوان وحدة، رغم كل ما تواجهه من تحديات. ومن أجل الحفاظ على هذه الهوية الوطنية، يتعين على السوريين أن يعملوا على تعزيز قيم الانتماء وقبول التنوع، من خلال التعليم الذي يركز على القيم المجتمعية والابتعاد عن التحزبات الأيديولوجية، والنظر إلى العادات والتقاليد بوصفها عوامل توحد ولا تفرق.
فإن “سوريتي هويتي” تعبير عن عمق الانتماء للوطن بكل ما يحمله من تعددية وثراء، وما يأتي بعد ذلك هو استكمال لمسيرة مجتمع متماسك ومستقر يتسع للجميع. لذا، يجب علينا جميعاً أن نعمل معاً لتعزيز هويتنا الوطنية من خلال التعليم وقبول التنوع.