
سوريا حصنٌ وحلبُ بابُه… حلبُ مفتاحُ النصر
تُعتبر حلب من أهمّ حواضر سوريا الطبيعية، وبقيت لأربعمائة عام ولاية عثمانية يتبع لها الكثير مما يُعرف بتركيا الحديثة كإسكندرون (وهو ميناء حلب على المتوسط) وعنتاب، وبعد الجلاء وفي ظِلّ الحكومات الوطنية تم اقتطاع أجزاء منها لأسباب إدارية وسياسية، حيث تم إنشاء محافظتي إدلب والرقة. عاقبها نظام الأسد بقسوة بعد أحداث الثمانينات، حيث شَكّلت مع حماة أهمّ تهديد حقيقي لحكمه، وتم تهميشها طيلة العقود اللاحقة لحكم الأسدين، فلم يكن فيها مطار حقيقي، ولا إذاعة، ولا تلفزيون، ولا صحيفة، وتم إجهاض الفورة الصناعية والتجارية التي حدثت فيها بعد سقوط الإتحاد السوفييتي بسبب الحركة التجارية مع الإمبراطورية المنهارة، وتم نقل كل الفعاليات التجارية إلى دمشق.
كانت حلب تُمثّل إقطاعاً مُربحاً لأزلام النظام، يُرسل لها أسوأ الفاسدين لسرقتها وتخريبها، وخلال الستة عقود من حكم الأسدين لم يجرِ تطوير بنيتها العمرانية، حيث لا وجود لجسور وأنفاق وعقد طرقية، ولم يتم إنجاز مخطط تنظيمي حديث للمدينة، وبسبب إهمال الريف المتعمّد، تم تشجيع الهجرة إلى المدينة عبر عشوائيات وأحزمة فقر أحاطت بها من كل جانب… ومن الريف المهمّش والمهشّم تسلّلت الثورة وزحفت إلى المدينة، وبالطبع دخلتها من أحيائها الشرقية الفقيرة في صيف 2012، تلك الأحياء التي أرادها النظام لخنق حلب، فكانت البيئة الحاضنة للثورة وخزانها البشري الذي لا ينضب…
لا تستقيم الدولة السورية الحديثة إلا بوجود حلب ودمشق، وخروج حلب عن السيطرة يطعن في شرعية النظام خارجياً وهيبته داخلياً، نظراً لما لحلب من ثقل مادي ومعنوي في الذاكرة السورية، ولضرورة تماسك الدولة السورية، بل وقدرتها على الحياة… لذلك، عندما حاصرت قوى الثورة أحياء حلب الغربية والتي استطاع النظام الاحتفاظ بها عام 2012، كان يوجد قرار دولي بعدم سيطرة الثوار عليها، لأنّ ذلك يعني توحيد المدينة مع الريف المحرر سابقاً، وبالتالي تشكيل أرضية حقيقية لسقوط نظام الأسد.
ألقى الحرس الثوري الإيراني بكل قوته واستعمل أسلوب حرب إبادة حقيقية لفك الحصار عن أحياء حلب الغربية، ونجح في ذلك في أواخر عام 2014 عبر طريق إثربا – خناصر – السفيرة، وبقيت حلب الشرقية بأيدي الثوار كمكسب إستراتيجي للثورة يُمكن البناء عليه لاحقاً… نجا النظام من السقوط بعد تجاوز خطوط أوباما الحمراء في 2013 بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية، وظهر أنّ الرئيس الأمريكي مهتم بالوصول إلى اتفاق نووي مع إيران مقابل غضّ الطرف عن نظام الأسد والجرائم الإيرانية في سوريا، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً لإنقاذ الأسد، فكان لا بد من استدعاء الروس لتغيير موازين القوى على الأرض، وهو ما حصل فعلاً في 30 أيلول 2015.
كان الهدف الروسي لحماية النظام وإحداث النقلة النوعية في الصراع هو السيطرة على حلب الشرقية قبل محيط العاصمة، لأنّ الفارق الإستراتيجي سيبدأ من حلب، وهو ما حدث على الأرض، حيث تمكّن الاحتلال الروسي من إخراج قوات الثورة السورية من حلب بعد عام من انخراطه المباشر في الحرب، ونأى العرب بأنفسهم عن دعم الثورة عسكرياً، حيث لم يبقَ أيّ جدوى منه بإسقاط النظام بعد التفاهمات الأمريكية الروسية. أيضاً أدرك الأتراك حقيقة الموقف واتجهوا إلى التفاهم مع موسكو في درء الخطر المحدق بهم في الجنوب، وهو قطع الكريدور الكردي الزاحف نحو البحر الأبيض المتوسط عبر عملية درع الفرات في صيف 2016.
كان النصر الذي ينتظره بوتين هو إخراج المعارضة من حلب، وقد تحقّق له بعد استعمال أقصى درجات القوة، وكانت خسارة الثوار لحلب بداية الانتكاسة، والتي تلاها خسارات كبرى في كل الجغرافيا السورية. أدرك النظام باحتلاله لحلب الشرقية أنه انتصر، والباقي هو تفاصيل؛ حيث يُنظَر لعدم سيطرته على الأرياف على أنه تمرّد مُسلّح طرفي، ويوجد في دول عديدة، ولا يمسّ جوهر شرعية النظام وحقيقة تمثيله للدولة…
بينما التفتت الثورة وتركيا لإدارة هزيمة عسكرية وتنظيمها وتخفيف آثارها ما أمكن، والنجاة من هذه العاصفة الهوجاء التي تقودها روسيا وتتواطأ معها الولايات المتحدة، ونجح الثوار بمساعدة تركيا من امتصاص فورة الهجوم وحجمه والحفاظ على أرض محرّرة داخل سوريا، مع قوى عسكرية متعبة وبيئة حاضنة لم يتسلل الإحباط إليها، ولا وجدت الهزيمة إليها طريقاً. وذلك لبدء رحلة الألف ميل من الشمال على أمل تحرير سوريا من الاحتلالات الداخلية والخارجية.
كانت قوى الثورة العسكرية تنقسم إلى مجموعتين:
- في إدلب تمكّنت هيئة تحرير الشام من توحيد البندقية والقرار العسكري والسياسي، ومركزته بيد قيادة واحدة، واتجهت إلى حوكمة رشيدة وإنشاء دويلة نموذج موازية لنظام الأسد، ونتيجة لما تمتّعت به السلطة من استقرار ورؤية ورويّة، اتجهت لبناء قدرات عسكرية ذاتية، وإعداد الكوادر المؤهلة لاستحقاقات المستقبل.
- في الريف الحلبي الشمالي، تواجدت بقايا الجيش السوري الحر، وتم تشكيل فصائل جديدة من أبناء الثورة، وحرّرت مناطق من داعش وقسد، وارتبطت بتحالف وثيق مع الأتراك، وأنشأت حكماً محلياً لإدارة شؤون السكان، وكانت أقلّ انضباطاً وتنظيماً من نظيرتها في إدلب. جرت مشاحنات، تطور بعضها لصراع مسلح محدود، كان ضابط إيقاعه الحليف التركي، كما جرت نفس المشاحنات، بل والصراعات المسلحة، بين بعض فصائل الشمال وهيئة تحرير الشام… كانت البيئة الواحدة، والمظلومية الواحدة، والغايات الواحدة، والحليف الواحد، هو ما يجعل تلك الخلافات هامشية وتحت السيطرة، إلى أن توحّد الفريقان في عملية ردع العدوان لإسقاط نظام الأسد.
كان للوصول إلى دمشق لا مناص من تحرير حلب، وللوصول إلى حلب لا بد من الاستعداد المكثف. كانت النيّة عند الثوار السوريين والإخوة الأتراك الاحتفاظ بمواقعهم ريثما تظهر بجعة سوداء تُغيّر المعادلات الدولية. وفي انتظار تلك البجعة ساعدهم غباء الأسد وقلّة حيلته، عندما أيقن أنه شر لا بد منه، وأنّ الإبقاء عليه ضرورة إسرائيلية أمريكية، على مبدأ “الشيطان الذي تعرفه خير من الشيطان الذي ستتعرف عليه”، وساعده في ذلك انفتاح دولي محدود عليه، وانفتاح عربي أدّى في النهاية لعودته إلى جامعة العرب، فيما كان الغزل التركي الخُلّبي ينهال عليه صباح مساء ومن كل حدبٍ وصوب…
أمعن الأسد في استرخائه، وأهمل جيشه، واعتقد أنّ زمن الحرب ولّى إلى غير رجعة، وأنّ الاهتمام بالمخابرات وأجهزة القمع كافٍ له لاستمرار نظامه، وأمعن في تحدي جواره العربي، ولم يستجب لكل مناشداتهم في إيقاف تهريب الكبتاغون والولوج لأيّ خطوة في الحل السياسي. كان نظام الأسد يتعفّن ويتجوّف من الداخل، وتحلّل جدار السلحفاة الذي يُغطّيه، وتبيّن رخاوته في المعركة أكثر من كل التقديرات المتفائلة بشدة ضعفه، فيما كانت قوى الثورة العسكرية تبني قواها، وكان كل خلافها مع الأصوات المدنية الصادرة من حواضنها المجتمعية أن “انتظروا قليلاً على فتح الجبهات…”
كان الجميع ينتظر ظهور بجعة سوداء، فأكرمنا الله باثنتين: الأولى كانت في 24/2/2022، والثانية في 7/10/2023. وبات واضحاً أنّ موازين القوى على الأرض تتغيّر في صالح قوى الثورة، إذ اشتبك العدوان اللدودان للثورة، والحليفان الصلبان للنظام، مع الغرب، وأرخى ضعفهما سدوله على الساحة السورية، وتغيّرت موازين القوى على الأرض التي أفرزت خطوط وقف القتال في 2020، ومما ساعد أكثر عدم إدراك الأسد لطبيعة المرحلة وعدم التقاطه للحظة السياسية في الوقت المناسب، وأدار المرحلة من ظهور البجعتين السوداوين إلى 27/11/2024 وكأنه يحفر قبره بيده، وهو ما حصل فعلاً…
كانت نخبة قوات النظام والميليشيات الداعمة له موجودة على جبهات إدلب وريف حلب الغربي، لأنّ منطقة خفض التصعيد الرابعة لم تتوقف فيها الاشتباكات أو خروقات النظام، ولا يوجد تفاهم ضمني روسي تركي بمعاملتها معاملة مناطق المعارضة الأخرى، وبالتأكيد يوجد إنهاك لروسيا من حربها، لكن قواعدها موجودة وتعمل ومتأهبة للدفاع عن إنجازات الروس في سوريا خلال عشرة أعوام خلت، وبإمكان الطائرات الروسية وطائرات النظام ارتكاب المجازر بحقّ حاضنة الثورة وإعاقة أيّ تقدم للثوار، كما أنّ حزب الله والميليشيات العراقية وميليشيات قسد لم تُستنزف بأيّ معركة، وهي بكامل عديدها وعتادها، والحرب بين إسرائيل والحزب كانت تتطلب تخفيف الحزب لانتشار عناصره في لبنان وإبقاءهم في سوريا كحماية لهم ولعدم جدوى وجودهم في لبنان.
وخلال السنوات الخمس من جمود الصراع، بنت قوات النظام خطوط دفاع قوية كانت كفيلة، مع التفوّق العددي والناري، أن تكون في مأمن من أيّ اختراق. على الجانب السياسي، كان قرار المعركة صعباً للغاية، ويحتاج لرجال من طبيعة خاصة. ماذا لو فشلت المعركة أو حقّقت تقدماً محدوداً بكسر خطوط الدفاع الأولى للعدو، وتمكنت قوات النظام من الصمود لاحقاً أو استعادة زمام المبادرة لاسترداد ما فقدته؟ ماذا سيحلّ بالمدنيين؟ وكم من الحمم الأرضية والجوية ستنهال عليهم؟ وأيّ مقتلة ستكون بينهم؟ حيث سيكون للنظام والروس أعذارهم بأنّ خصومهم لم يلتزموا بالهدن الهشّة، غير المعلنة وغير المكتوبة، ومن سيمنع تلك القوى من محاولة اجتياح المناطق المحررة؟ وكيف سيكون الموقف التركي، الضامن للمعارضة السورية، أمام الضامن الروسي الذي سيلعب دور الضحية المُعتدى عليه؟ وكم من اللاجئين الجدد سيتدفقون إلى الأراضي التركية؟ حتى إذا حرّر الثوار مدينة حلب المليونية ووقفوا على حدودها يدافعون عنها، كم سيُهجّر من أهلها إلى تركيا بفعل طائرات النظام وروسيا وصواريخهم…
قال الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين بعد التحرير: “إنّ الرئيس التركي غدر بنا وخدع الرئيس الروسي عندما لم يكبح جماح المعارضة في الوصول إلى حلب ثم دمشق، وقال: لقد خاننا وسيدفع الثمن.”
لم يكذب الرئيس الروسي (وهو الكذوب)، وفي محاولة منه لتبرير إخفاقه الإستراتيجي في حماية حليفه الأسد من السقوط، عندما برّر لنفسه عدم الاستمرار في دعم الأسد بعد تحرير حلب، حيث قال: “لقد تمكّن 350 من رجال المعارضة من دحر 35 ألفاً من قوات النظام المدافعة عن حلب في أقلّ من 72 ساعة.”
ومهما قيل وكُتِبَ وكُشِفَ عن معركة حلب، فإنها ستكون تاريخية في كل أبعادها، من سرعة تحريرها، إلى مخالفة كل القواعد العسكرية المتعارف عليها بتفوق المهاجم على المدافع بنسبة 3 إلى 1، ولم تكن الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وسيارات الدفع الرباعي إلا نموذجاً لانتصار القوة الصغيرة والمنظّمة والصلبة عقدياً على قوى أكبر منها تفتقر إلا ما تملكه القوة الصغيرة، وقدّمت للتاريخ نموذجاً بعدم حسم الحروب باستعمال القوة النارية الهمجية، ولا الإفراط في التدمير والتهجير…
تحرّرت حلب، وتساقطت المحافظات الواحدة تلو الأخرى في مشهد لا يتكرر إلا مرات قليلة في التاريخ، وتهاوت البُنى الهشّة للنظام كأحجار الدومينو، وعادت سوريا إلى أهلها إلى يوم القيامة، ولم يُضيّع الله وعده بنصر المؤمنين.