سوريا الجديدة القادمة.. مطلب نبذ الطائفية وإحلال تكافؤ الفرص
سوريا الحالية التي يكافح شعبها من أجل بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية، بحاجة إلى ترسيخ قيمٍ جديدة، هذه القيم، كانت قبل صعود حكم البعث والأسدين (الأب والابن) جزءاً من التكوين النفسي والفكري للشعب السوري.
قيم العيش المشترك، وتكافؤ الفرص، وعلاقات الانتماء الوطني، كانت قيماً سائدة في المجتمع السوري، الذي يتألف من مكونات إثنية ودينية وطائفية متعددة، فهذا المجتمع كانت يتطور فكرياً وعلمياً واقتصادياً بما يتسق وحاجاته الإنسانية، فالعلاقات بين المكونات من جهة كانت علاقات أخوة ومحبة، وكانت الدولة وعاءً يتسع لجميع هذه المكونات بصورة طبيعية وبسيطة.
بعد صعود البعث بدأت عملية ترسيخ الفكر القومي بالقوة، وهذا أمرٌ أضرّ بالوطنية السورية، ودفع باتجاه إحساس بعض مكوناتها الإثنية بالغبن، حيث فُرض التعريب على السوريين من غير العرب، ما جعلهم في خانة التقوقع لحماية الذات الاثنية، ثم العمل على مقاومة هذا التعريب بصيغة عمل سياسي سلمي. ولعل الشاهد الأهم في ذلك هم المكون السوري الكردي.
إن صعود الأسد الأب إلى السلطة في تشرين الثاني عام 1970م مثّل مرحلة جديدة من العبث بالنسيج الوطني البسيط في البلاد، فالأسد ادعى أنه حام للأقليات الدينية والقومية، في وقت كانت سياسته تدفع أبناء هذه الأقليات إلى الهجرة عن البلاد اتقاء لقمعه المتعدد الأدوات والأهداف.
عبث الأسد الأب بوحدة المكونات السورية أتى مرتكزاً على قواعد مختلفة، فهو بدلاً من تمدين الريف السوري فعل العكس، أي جعل حركة الاقتصاد ترتبط بالمدن دون السماح بتطوير الصناعات والخدمات في الريف، وهذا أدّى إلى ترييف المدن بدلاً من تمدين الأرياف.
وعبث الأسد الأب بمكونات العشائر، فشجّع على تشظي هذه العشائر من خلال خلق أنداد عشائرية للشيوخ العشائريين والقبليين التقليديين، الذين كانت كلمتهم مسموعة، ما وضع العشائر في حالة تنافس وصراع اجتماعي مزّق وحدة هذه العشائر من أجل السيطرة عليها بسهولة بعد تمزيقها.
هذا الأسلوب الأسدي المخرّب اتبعه الأسد الأب مع الاثنيات والطوائف، فعمد إلى مزيد من تشجيع الانقسامات في المجتمع ومكوناته، ليسهل حكمه عبر أجهزته المسلطة على الناس، سواء كانت أجهزة تنتمي للنقابات أو تنتمي للأحزاب أو للمكونات المختلفة.
ولزيادة تمكنه من السيطرة على المجتمع السوري بكل فئاته، أشاع الأسد عن قصد سُبل الحصول على الرشاوى، وسرقة المال العام بصور مختلفة من خلال شراء الولاءات عبر السماح بالنهب تحت رقابته، فحين يتمرّد الفاسد الناهب لمال عام، تتم مواجهته بسجله الفاسد، وهذا يجعله متأرجحاً بين ولاء تحت الخوف من السجن والعقوبات والفضيحة، وبين اختيار طريق مستقلة ستقوده أولاً إلى السجون في أضعف الحالات.
إن تعميق تعميم الفساد الذي مارسته سلطة بيت الأسد، خلق تربة صالحة للتنافس الرديء بين بعض الموالين للنظام، هذا التنافس، أخذ شكل صراعات اقتصادية تعتمد على اقتصاد السوق السوداء، وشكل صراعات سياسية تمثّلت بمزيد من هدر القيم الاجتماعية الطبيعية لصالح تعميم قيم الكذب والمبالغات الشديدة، وهذا مهّد للترويج الرخيص لمفهوم “الأب القائد”، الذي يحيط علمه بكل ما يخصّ حياة الناس، وفي نفس الوقت خلق هدر القيم والفساد الحكومي والاجتماعي إلى ترسيخ تدرجي يقوم على نبذ نظام الحكم الفاسد والتفكير بالثورة عليه والخلاص من تخريبه وعبثه بالدولة والمجتمع السوريين.
إن الثورة السورية التي ولدت على هذا الركام من القهر السياسي والاجتماعي، إنما كانت ثورة تريد استعادة القيم الأخلاقية التاريخية للشعب السوري، وهذا يجعلنا نضع في الاعتبار أن الصراع بين الشعب السوري الثائر على نظام القهر والاستبداد والقمع والتمييز الاجتماعي، وبين النظام الأسدي هو صراع بين أنموذجين مختلفين، صراع بين شعب يريد تكريس قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وبين نظام لا يعترف بالدستور ولا بالقوانين، فهو يعتبر نفسه أعلى من الجميع.
استعادة القيم المهدورة وإعادة بنائها وطنياً يحتاج إلى جيل شباب سوري من الجنسين، تُعتبر هذه القيم ميزان حياته وتطوره، فكلما هبطت كفة الميزان لغير زيادة تركيز هذه القيم، كلما كانت فرص تطوير المجتمع أكثر صعوبة وأقرب للفشل.
جيل الشباب الذي ولد وعاش خضم تجربة اللجوء والنزوح والقتل والدمار هو الجيل الذي ستبدأ معه عملية بناء المجتمع أخلاقياً، فهذا الجيل اكتوى بنار اللجوء والقمع والفساد الحكومي وغير الحكومي، ولهذا فهو أقرب إلى حمل برنامج التغيير العميق للمجتمع السوري وقيمه الحالية السائدة.
إن بناء منظمات مجتمع مدني سورية حقيقية يجب أن يكون شاغلها الرئيس هذه المهمات، وهو ما يدفع بمنظمة أمريكية سورية اسمها “سورية طريق الحرية” إلى حمل كتف مع السوريين لتنفيذ برامج تأهيل ومساعدة الشباب من الجنسين للعب هذا الدور العظيم.
إن القضاء على نظام الاستبداد والقهر والفساد الأسدي يتطلب بناء هذا الجيل، وهي مهمة ليست مستحيلة ولكنها تحتاج إلى تضافر قوى التغيير الوطني على بناء هذا الجيل من خلال رفده بالمعرفة والعلوم ومن خلال تعميق قيم المجتمع السوري الأخلاقية الكبرى، والتي ترتكز على عدم الاستغلال والظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وترتكز على قيم المساواة بين الأفراد أمام القانون دون تمييز عرقي أو ديني أو طائفي أو مناطقي.
بقي أن نقول إن التاريخ الإنساني ليس تاريخاً للنهب والقتل والفساد، بل هو تاريخ بناء الحضارات التي تشهد أرض سورية على قيامها منذ فجر الزمان.